التطرف والتكفير ينسفان حرية ممارسة الشعائر الدينية في لبنان!‏

نشهد منذ ما يقارب الثلاث سنوات ظهور حوادث خطرة مستجدّة في المجتمع اللبناني تمسّ حرية المعتقد والدين وحرية ممارسة الشعائر الدينية وقد تجلّت آخر أشكالها بالقرار “التمني” الصادر عن رئيس بلدية عاصمة الشمال الّذي تمنى على المطاعم والمقاهي عدم المجاهرة بالإفطار خلال شهر رمضان الكريم. وكانت بلدية عبرا قبل طرابلس قد أصدرت قرارًا مماثلا ما لبثت أن عادت عنه بعد موجة انتقادات كبيرة.


ومنذ فترة وجيزة ، اهتزّ الرأي العام اللبناني بحادثة مدرسة الـSabis العلمانية في منطقة أدما التي أعادت تلامذتها الى بيوتهم يوم “إثنين الرّماد” لدى الطوائف المسيحية لدى دخولهم الى المدرسة مرمّدين جباههم بإشارة الصليب. ولن ننسى أيضا ما تمّت اثارته على لسان وزير سابق من كلام جارح ومهين بحقّ المرأة المحجبة واصفًا إياها بـ “كيس الزبالة” ما أدى الى مقاضاته من قبل 71 سيدة من المجتمع المدني من الجنسيّتين اللبنانية والسعودية مطالبين ملاحقته بجرائم يعاقب عليها قانون العقوبات اللبناني، ناهيك عن المصارعة اللامنتهية داخل المجلس النيابي اللبناني منذ حوالي السنتين من أجل تخفيض عدد ايام العطل الرسمية الممنوحة للطائفة المسيحية، فضلا عن سماع الكثير من الاصوات المنددة، في الآونة الاخيرة، بالمظاهر المرافقة للاحتفالات الحزينة بذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي (ع) كنحر الرأس بسكين أو ضرب الجسد بالسياط، وهي على الرغم من اتسامها بالعنف والتطرف التعبيري، الا أنها تبقى شعائر دينية خاصّة بطائفة اسلامية شريكة في الوطن يكفل لها الدستور حق ممارستها، وهذا ليس في ظاهره أقل خطورة من القرارات الأخيرة لمجلس شورى الدولة لناحية وضع قيود على حرية ممارسة الشعائر الدينية في لبنان، إذ جاء في أحد قراراته حرم مواطنين من الحق بالقيام بتأدية الصلوات الجماعية في مكان خاص! مبررًا قراره هذا بعدم جواز ممارسة الشعائر الدينية من قبل أي تجمّع أو جماعة غير معترف به قانونًا مهما كانت تسميته، كما لا يمكن إقامة هذه الشعائر الا في الأبنية أو الدور العائدة لإحدى الطوائف أو المذاهب المعترف بها قانونيًّا.

هي حرب باردة لتقييد حرية ممارسة الشعائر الدينية يشهدها لبنان للمرة الأولى في تاريخه منذ تأسيس كيانه ويعود ذلك في الدرجة الاولى لموجة تنامي الحركات الأصوليّة في جميع أقطاب الدول المحيطة، والسبب الثاني يتعلق بتقلّص الوجود الديموغرافي والجغرافي لمسيحيي الشرق وتراجع دورهم في القرار السياسي والاقتصادي باستثناء لبنان، وارتفاع صوت العصبيّة المذهبيّة خصوصًا بين المذهبين الجعفري والسني في كافة أرجاء المنطقة، إضافة إلى دخول الطابور الثالث من الغرب حلقة الصراع الدائر بين هذين المذهبين ما أدى الى تأجيج هذه العصبيات وظهور التكفيريين المعادين لمبادئ التعددية والاعتدال، لذلك يبدو أن لبنان قد تأثر بهذه العوامل بشكل جارف ما تسبّب بتشييع الفكر المتذمت وبدد مبادئ متجذرة في وجداننا الوطني منها فكرة التعايش بين مختلف الطوائف والمساواة بين جميع المواطنين وقبول الاخر وسهّل في وقت لاحق لمنظومة تقييد حرية ممارسة الشعائر الدينية أو أخذها في مكامن أخرى نحو التطرف على نحو مناهض لما تم تكريسه بفعل المادة 18 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان وأيضا بفعل المادة الـ 9 من الدستور اللبناني التي نصت على أن “حرية الاعتقاد مطلقة والدولة تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية اقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها، على ألاّ يكون في ذلك إخلال في النظام العام”.

ولكن، ماذا تعني هذه العلامات الخطرة المستجدة في المجتمع اللبناني بلد الرسالة؟
قبل الدخول في تحليل هذه العلامات، تقتضي الاشارة الى أن لبنان اعتلى قائمة دول العالم التي تكفل حرية المعتقد الديني لمواطنيها، وذلك وفقاً لدراسة جرت على 195 دولة نشرتها منظمة سي أي ار أي الدولية، توصّلت إلى تصنيفها في 3 مستويات.

ووفقاً لمعطيات الدراسة، احتل لبنان قائمة الدول المُدرجة ضمن المستوى (2) الذي لا يفرض قيوداً على حرية المواطنين، بينما تصدرت قائمة الدول المصنفة ضمن المجموعة (1) إيطاليا، في حين اعتلت فلسطين المحتلة قائمة الدول المصنفة في المجموعة (0).

مما يعني أن لبنان كان وما زال حامل راية الحريات ومن أبرزها حرية المعتقد والدين التي تتضمن في آن واحد حرية العقيدة وحرية الفرد في ممارسة الشعائر الخاصة بهذه العقيدة سواء بصورة فردية أو جماعية، ما يشير الى أنه ترسخت، ومنذ قيام لبنان، علاقة وثيقة بين الأديان ومؤسسات الدولة، تبلورت في حماية الأخيرة لحقوق مواطنيها في ممارسة شعائرهم الدينية الخاصة بهم وعدم السماح بالنيل أو الانتقاص منها، ما أرسى التعايش بين المسلمين والمسيحيين وجعله مسألة أمر واقع وخير مقال في ذلك ما جاء على لسان العلامة الامام موسى الصدر بما حرفيته “التعايش الإسلامي المسيحي هو من صميم الحياة اللبنانية، وأن الميثاق الوطني عام 1943 لم ينشئ هذا التعايش بل كان انعكاساً له وتعبيراً عنه، لأن التعايش أقدم من الميثاق ومن واضعيه ومن آبائهم وأجدادهم، فمنذ ألف سنة فتح اللبناني عينيه فوجد جاره من غير دينه وأكل عنده.”

ولا بد من التطرق الى الحوادث الطائفية التي ساهمت في اشاعة المخاوف داخل المجتمع اللبناني بسبب تعاظم وتيرة التطرف الطائفي في البلدان المجاورة له، وأثّر ذلك على مسألة الحريات العامة وخصوصًا حرية ممارسة الشعائر الدينية. ولعل أبرز تلك الأحداث ما حصل في العراق ابتداءً من شهر آب عام 2004 بعد سقوط النظام فيه حين حدثت هجمات منسقة ضد خمس من الكنائس في العاصمة بغداد ومدينة الموصل في الشمال الغربي من العراق ونتج عن ذلك هروب عشرات الآلاف من المسيحيين الى الخارج وسط التقارير عن استمرار الهجمات على الكنائس والمؤمنين, والحوادث الاخرى التي تأثر فيها الداخل اللبناني كأحداث الإسكندرية الشهيرة في العام 2005 حيث تجمهر ما يزيد عن خمسة آلاف مسلم بعد صلاة الجمعة حول كنيسة مار جرجس بمحرم بك وما نتج عنه من فوضى وأعمال شغب أدت إلى مقتل قبطي وطعن راهبة وإصابة كثيرين وتخريب لممتلكات الأقباط.

وقد توالت هذه الاحداث في كل من البلدين وبلغت عددًا لا يستهان به من الاعتداءات في السنوات الأخيرة. وهي سلسلة وقائع مؤلمة ليست دليلاً الا على ظهور التيارات المتطرفة التكفيرية وبدء تناميها في دول الجوار اللبناني.

أما الحدث الفصل الذي سيخضع للاختبار من جديد موضوع الحريات العامة وخصوصًا مسألة حرية المعتقد والدين، فكان نتيجة الاساءات لشخص النبي محمد (ص) عن طريق نشر صور واصدار أفلام في بعض الدول الغربية مسيئة اليه وذلك في العام 2006، على أثرها توجه متظاهرون إلى القنصلية الدانمركية الواقعة في منطقة الأشرفية للاحتجاج على نشر صحافة بلادها الصور المسيئة، وقد قرأنا في كثير من الصحف اللبنانيّة عناوين تفيد بأنه ماذا لو كانت القنصلية في الحمرا أو فردان؟ باشارة الى حقيقة النيات وراء هذا الهجوم على منطقة مسيحية بامتياز – وللمرة الأولى بعد الحرب اللبنانية بسنوات طويلة – وكأن الوخز الطائفي داخل النفوس ما زال في أبهة غليانه فكانت حادثة الصّور المسيئة تلك بمثابة الفرصة الذهبية لتفجير عواطف مبيتة تبلورت بأعمال الشغب واحراق السفارة الدانماركية المتواجدة في حي مسيحي مئة في المئة!!

وبعده كانت أحداث نهر البارد في العام 2007 التي أظهرت وجود تيارات دينية سلفية متطرفة منتظمة داخل الاراضي اللبنانية تعرف باسم فتح الاسلام وهو فرع من فروع القاعدة، وقد سجل العام 2008 أحداث 7 ايار 2008 المفجعة التي أحيت في نفوسنا الرعب مما يمكن أن تؤول اليه حدة التنافس المذهبي في لبنان من تشرذم وتقسيم وآثار كارثية تمتد على كافة مساحات الوطن، وصولا الى العام 2009 حيث شهد المسرح اللبناني صدور فتاوى دينية وارتفاع في حدة الخطاب الديني الذي استخدم في الكثير من المناسبات الدينية والسياسية والإجتماعية كأداة تحريض بين الطوائف والمذاهب.

جميع هذه العوامل على خطورتها ستؤدي في وقت لاحق الى بروز اجتهادات وسوابق مقلقة في المجتمع اللبناني لجهة اما تقييد حرية ممارسة معتقداتنا الدينية اما أخذها الى تطرف غير مسبوق، وقد بدأنا فعلا نلمس على الساحة اللبنانية نتائج هذه الحوادث الطائفية المتطرفة، ولا سيما قضية الرموز كالصليب والحجاب ومنع تخصيص أماكن للصلاة داخل الجامعات المسيحية ومنع مجاهرة غير المسلمين بالافطار خلال شهر رمضان الكريم…

وعليه، لا يمكن أن نسمح في لبنان أن تمس الحريات اللصيقة بممارسة الشعائر الدينية، أكان اللبناني مسلما أم مسيحيا، مُنِح حرية مطلقة لممارسة عقائده الدينية شرط عدم المساس بالنظام العام وعدم تقييد حرية الطوائف الاخرى في ممارسة شعائرها.

ان الانفتاح والاعتدال والتسامح بين الطوائف خلق لبنان الرسالة وكرّس هذه الحرية، وبالتالي يكون جائرًا العبث بهذه الحرية بهدف اضعاف فئة من النسيج اللبناني على صالح فئة أخرى أو تقويتها، واذا كانت الشعائر الدينية عبارة عن ممارسات خارجية وظيفتها تأكيد القيم والتذكير بها وربط الانسان بالمبادئ التي يؤمن بها، فمن الاولى أن يكون نظامنا، بجميع أشكاله وهيئاته، الحصن الرادع لأي فئة أو حزب أو جهة حكومية أو غير حكومية في الوطن من العمل بهدف تأمين هيمنة طائفة على أخرى!

في الآونة الاخيرة، يتبين أن الاحوال داخل مدينة طرابلس بدأت تتخذ منحى متطرفا مع صدور مذكرة مشبوهة ” تمن” مؤخرًا عن بلديتها – وما زلنا تحت وطأة الصدمة – توصي أبناء البلدة احترام صوم المسلمين وعدم المجاهرة بالافطار خلال الشهر الكريم. ماذا تعني هكذا توصيات، ألم يعد للبلدية أولويات تخص حياة المواطن الطرابلسي اليومية أكثر إلحاحا من موضوع هذه المذكرة؟ والمستغرب تلكؤ وزير الداخلية والبلديات وهو رأس سلطة الوصاية، عن ادراك خلفيات تلك المذكرة ومدى المساوئ التي يمكن أن تأتي بها على التعايش الطائفي بين أبناء المدينة، وهو ما تم استغلاله مؤخرًا من قبل بعض المشاغبين في المدينة بالقائهم قنبلة يدوية على رواد احدى المقاهي في المدينة خلال فترة الصوم.

فاذا تم توقيف بعض المقاهي والمطاعم عن تقديم المأكولات اكراما للمسلمين الصائمين، ستكون كل الاحتمالات مفتوحة في الغد بإصدار مذكرات تمنع مثلا بث أي برامج اذاعية خلال الشهر الكريم باستثناء تلاوة الايات القرآنية “بهدف عدم افطار الاذن الصائمة”، او اصدار مذكرات بفرض اللباس المحتشم على النساء غير المسلمات خلال الشهر الكريم، “لعدم افساد العين الصائمة …”

هل سيتقبل الشريك المسلم صدور مذكرات تمنع محلات السمانة والسوبرماركات من بيع اللحوم والاجبان والالبان وكل ما هو من الزفر طيلة مدة الصيام لدى المسيحيين باعتبار أن ذلك يساهم في تأكيد المواطن لتمتعه بالخلق الكريم واحترامه لدين الاخر كما أوردت المذكرة المشؤومة معطية بذلك أسباب موجبة لاصدارها؟

طبعا لا، ان ذلك يقع لا محالة في خانة تقييد الحريات العامة المتعلقة بحرية المأكل والمعتقد ويجعل من ممارسة فئة لشعائرها الدينية تتسم بالتطرف الغير مسبوق في لبنان وعدم احترام وجهات النظر المقابلة وأساليب التفكير ويقيّد الحرية الشخصية لطائفة أخرى في معتقداتها ومأكلها وملبسها يكفلها لها الدستور!

وليس أكثر سوءا من مذكرة طرابلس المشؤومة الا قضية طرد تلامذة من مدرسة علمانية داخل منطقة كسروان بسبب وضعهم اشارة الصليب في أول يوم من الصوم لدى الطوائف المسيحية، على الرغم من أن المدرسة هي علمانية ويأتي اليها في مركزها في الشويفات الكثير من التلامذة الفتيات المحجبات ولم تتخذ ادارة المدرسة أي قرار مسلكي أو بالطرد بحق تلامذتها المحجبات!! علماً، أن وضع اشارة الصليب في أول يوم من الصوم هو بمثابة الشعيرة الدينية الخاصة بالمسيحيين يمارسونها في لبنان والعالم منذ قيام المسيحية!
وقد بررت المدرسة المذكورة اجراءها هذا بكون لبس الحجاب هو ممارسة للدين الاسلامي بينما وضع اشارة الصليب يندرج في خانة ابراز رمز ديني ما هو مخالف للنظام العلماني الذي تتصف به المدرسة!

ولنا ردنا أيضا في هذا الشأن وإذا ما بحثنا في أنظمة المدارس العلمانية خارج لبنان، نجد أن في فرنسا يحظّر إبراز أي شعار ديني حسب القانون الفرنسي الصادر عام 2004 الذي يمنع ارتداء أي إشارات او ملابس تدلّ على الانتماء الديني. هذا بالاضافة الى أن فرنسا منعت النقاب أو غطاء الوجه منذ العام 2011، وسمحت فقط بتغطية الشعر، وهو ما يعرف في فرنسا بالحجاب، وفرضت غرامات مالية كبيرة على كل من يخالف هذا الأمر، إلى جانب منع دخول أي شخص يرفض كشف الوجه لأسباب دينية. أما في بريطانيا فكان التعاطي مع الشعارات الدينية أكثر تسامحا اذ اعتبرت الدولة أن الشعارات الدينية هي من صلب حقوق الانسان وحرياته ولا يجوز للدولة أو لأي دين أن يمنعها! فاذا كان هذا الجدل لم يحسم بعد في العالم، لماذا تتمسك مدرسة علمانية في لبنان بقضية ليست في خواتيمها الا “تسويد للوجه” بينما ما زالت 18 طائفة تتعارك كل يوم من أجل تعيين مدير عام في أصغر دائرة؟؟ وهل تستطيع المدرسة أن تقنعنا أن العلمانية وحدها هي وراء قرارها هذا؟!

أيضا لن نتهاون مع أية أفكار يمكن أن تطال حرية المسلمين في ممارستهم لعقيدتهم عن طريق لبس الحجاب أو ممارسة شعائر خاصة بهم كالاحتفالات الحزينة بذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي (ع) ، لأن القول بعكس ذلك سيكون معيبا بحق المسيحيين، خصوصًا أن الدين الاسلامي هو أيضا دين منفتح ومعتدل ولسوف نستمر مؤمنين باعتداله، على الرّغم من كل التطرف الاسلامي التكفيري المستجد.

هذا في الأمس، أما اليوم فإن موجات التطرّف والتكفير تثير أكثر من علامة استفهام حول ممارسات أفراد، أو فئات، من المسلمين والمسيحيين في لبنان. لا نقول ذلك عبثا واعتباطا، بل لكون تلك الافكار والعصبيات ليست الا وليدة التخلف ونقيضة اللقاء الديني بين المسيحيين والمسلمين الحتمي في لبنان فمن دونه لا لبنان.

أخيرا، يكفي أن تتعاطى الدولة مع مواطنيها على أساس المواطنة لا المذهبية، وتكفل لشعبها الحق بممارسة شعائره الدينية ، وأن يكون لمختلف المذاهب والطوائف داخل المجتمع الحق في التعبير عن معتقداته بحرّية، من دون مسايرة أحد أو التعاطف مع أحد على حساب الاخر، من هنا يقتضي عليها ابعاد الاذهان عن أي ايديولوجيات دينية متطرفة، و لا سيما أن الفئة المسيحية – الاكثر تهميشا في مشرقنا اليوم – بدأت تساورها المخاوف التي قد تنعكس عليها نتيجة استجابة بعض مسلمي لبنان للأصولية المتطرفة المستجدة في الجوار .

السابق
وللطفل الفلسطيني حق الحياة.. كأطفال العالم
التالي
مهرجان النظافة والمرح في حاريص