«الدولة الإسلامية» أم «القاعدة» أيهما أقوى؟

ثمة ما يغري في المقارنة بين المقاربتين الستالينية والتروتسكية لـ”الثورة”، ومقاربة كل من تنظيم “القاعدة” الأم ونظيره تنظيم “الدولة الإسلامية” للـ”جهاد”، برغم التفاوت الكاريكاتوري بين التطبيق الحداثي (الشيوعي) وما قبل الحداثي (الجهادي) لكل من المسألتين. فمن بين ما فرّق النموذجين الشيوعيين المتداولين في القرن الماضي، قضيتا “البيروقراطية” و”عالمية الثورة” وما يتصل بهما. إذ إن تروتسكي الذي أمضى الشطر الأخير من حياته طريداً تلاحقه الأجهزة السوفياتية حتى اغتياله، كان شديد الاعتراض على نمو البيروقراطية في ظل الحكم الشيوعي المستجد للاتحاد السوفياتي، فيما كان غريمه ستالين متمرساً في تطويع الجهاز البيروقراطي لتثبيت سلطته الحديدية. وفيما كان تروتسكي متحمساً لـ”تصدير الثورة” والسير بها توازياً في بقاعٍ عالمية أخرى عبر شبكة من الأحزاب الشيوعية، كان ستالين يفضل صرف جهده على تمتين أواصر دولته الشيوعية على حدود أوروبا، قبل التطلع إلى ما وراء الحدود.
في المشرق العربي الذي يتوهم بعضه وبعض المهاجرين إليه العيش في الماضي (برغم ضعف الشبه بهذا الماضي)، يأخذ التنافس بين لاعبَي “الجهاد العالمي” شكلاً تنظيمياً واستراتيجياً شبيهاً بذاك المذكور أعلاه. فأبو بكر البغدادي الذي بات ينازع أيمن الظواهري على بيعة الجهاديين فضّل مركزية الدولة على حساب لا مركزية الحركة. وقد بادر المتحدث باسمه في بيانه الأخير حول إعلان الخلافة إلى تعداد “الإنجازات” البيروقراطية في دولته البدائية، حيث “عُين الولاة وكُلف القضاة وأقيمت المحاكم، ولم يبق إلا أمر واحد… ألا وهو الخلافة”.
وقد أخذ الافتراق الجدي يظهر بين تنظيمي “القاعدة” و”الدولة” بعيد مقتل الزرقاوي في العراق نهاية العام 2006، وفق ما ظهر في الوثائق التي كشفت عنها واشنطن عقب اغتيالها بن لادن قبل ثلاثة أعوام، حيث بادر الأخير (بحسب الوثائق) إلى إطلاق جملة من النقاشات الداخلية في تنظيم “القاعدة” الأم، توازياً مع بعثه رسائل مناصحة لتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” تدعو قادته إلى تجنب قتل المدنيين والاقتتال مع سائر الفصائل، خصوصاً بعدما تحول الأخير من مواجهة البيئة الشيعية في البلاد إلى استهداف بيئة الجماعات السياسية والعسكرية السنية التي اختلف معها. وقد كان لرفض تنظيم “الدولة” مساواة نفسه بأقرانه على “الساحة الجهادية” دورٌ في اصطدامه بهذه الجماعات، حيث رأى في معظمها، حتى تلك التي حصرت نشاطها بمقاومة الاحتلال، خطراً محتملاً على مشروعه الذي لا يحصره في إطار التعريف الضدي (أي ضد الاحتلال والطوائف الأخرى)، بل في إطار الفعل المؤسس (أي تأسيس “دولة إسلامية” على نمط طالبان أو حتى على يمينها).
وبعد انحسار نفوذ تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” إثر اندلاع الحرب الأهلية العراقية الطاحنة بين 2006 و2008، عاد زعيمه الجديد وقتها أبو بكر البغدادي ليؤكد ولاءه لزعيم تنظيم “القاعدة” أسامة بن لادن العام 2010، وليؤسس انطلاقة ثانية لجماعته التي أغرقت بلاد الرافدين بدماء الآلاف. ثم تمدد التنظيم داخل البيئة السورية مع انطلاق الحراك السوري وعسكرته تدريجياً، تحت ستار “جبهة النصرة” أولاً، قبل أن تنفضّ الأخيرة عنه وتظفر بدعم زعيم “القاعدة” الأم ووريث بن لادن، أيمن الظواهري، من دون أن تتمكن من قصم ظهر “الدولة” التي حافظت على تماسكها قبل أن تتجاوز “النصرة” بسرعة قياسية.
وبالرغم من إعلان الطلاق بين تنظيم “الدولة” و”القاعدة” إثر الخلاف على أحقية العمل على الساحة السورية، إلا أن الظواهري عاد ليحاول في رسالته الأخيرة قبل شهرين، الحفاظ على دوره المرجعي على مستوى الحركة السلفية الجهادية، بدعوته إلى وقف الحملات الإعلامية بين “الدولة” و”النصرة” ورص صفوفهما ضد “أعداء الإسلام من البعثيين والنصيريين وحلفائهم من الروافض”. وهو، فضلاً عن رغبته بالبقاء في موقع المرجع، بدا غير مقتنع بقدرة البغدادي على بناء “دولة” من جهة، ولا واثقاً بشبكة تحالفات “النصرة” مع جماعات “جهادية” يتصل بعضها بأجهزة استخبارات سعودية وتركية وقطرية من جهة أخرى. أي أنه أظهر ميلاً لتفضيل البقاء خارج القيود “البيروقراطية” للدولة، لكنه بدأ يستشعر ترهل “القاعدة” بشكلها التنظيمي الراهن، والذي لا يعطيه أكثر من سلطة معنوية على الجماعات “الجهادية” المنتشرة في أرجاء مختلفة من العالم الإسلامي.
بيد أن نداء الظواهري ذهب أدراج الرياح، شأنه شأن نداءاته السابقة على مدى أشهر، مع إحساس البغدادي أنه ممسك بناصية الأمور. فهو موجود في قلب المعركة وعلى رأس التنظيم السلفي الجهادي الأكثر تماسكاً في المنطقة، كما أنه مزايد على شعارات «القاعدة» لناحية عدائه الجذري لكل مخالف ولجهة رفعه شعار “الدولة ـ الخلافة”، وهو الشعار الذي استكمله (نظرياً) بإعلانه الأخير عن تأسيسها.
ويشعر البغدادي اليوم بفائض القوة لأنه الجاذب الأول للـ”جهاديين” على حساب “القاعدة”. إذ إنه يمتلك عنواناً واضحاً (سوريا والعراق وقريباً جوارهما!) وأهدافاً ملموسة (تأسيس “دولة الخلافة”) وموارد ضخمة (جعلته بعد غزوة الموصل على رأس أغنى التنظيمات في العالم) وانضباطاً عقائدياً (ولو على شكل هيستيريا جماعية) وقدرة تنفيذية عالية (تتيحها سيولة الأحداث في المنطقة فضلاً عن خبرته الاستخبارية والقتالية).
أما الظواهري، فهو بدأ يفقد جناحاً كاملاً من “السلفية – الجهادية”، هو ذاك الواقف على يمينه (من كان ليظن أن ثمة مساحة على يمينه؟) والذي يكنّى أنصاره بـ”الزرقاويين الجدد” تيمناً بزعيم “الدولة” الأول، لأنهم الأكثر عنفاً وراديكالية قياساً بالسلفيين الجهاديين الآخرين. لكنه برغم ذلك، ما زال يحتفظ لنفسه بهامش الحركة التي يبدو أن غريمه الجديد، أبا بكر، سيفقدها شيئاً فشيئاً مع اتضاح معالم “دولته” وتحولها من ساحة استقطاب لآلاف الجهاديين الجدد، إلى هدف واضح المعالم لكل الدول المتضررة من نموه في الإقليم والعالم.
حينها، قد يعود الظواهري لامتلاك أفضلية على خصمه، حيث إن “دولة” البغدادي ستفقد ميزتها كجسم تنظيمي متماسك، بيد أنها ستخلف وراءها آلاف الانتحاريين الباحثين عن الانتقام.
ملاحظة: لم يكن “الانتحار الجماعي” احتمالاً في المثال السوفياتي الحداثي المذكور مطلع المقالة. المفارقة أننا في مشرق أكثر بدائية، لكنه أشد تعقيداً بكثير.

السابق
من يسخر من جمال سليمان؟
التالي
توفي… خلال عرسه

تابعوا اهم اخبارنا على تطبيق الوتساب

يقدّم موقع جنوبية مواضيع خاصّة وحصرية، تتضمن صوراً ووثائق وأخباراً من مصادر موثوقة ومتنوّعة تتراوح بين السياسة والمجتمع والاقتصاد والأمن والفن والترفيه والثقافة.

مجموعة جنوبية على الوتساب