هل تتصدع دولة البغدادي في العراق والشام

يبدو أن سلوك الدولة الإسلامية في العراق والشام أربك أصدقاءها وأعداءها معا عقب سيطرته على مدينة الموصل، فالتنظيم الأكثر صلابة على الصعيد النظري الإيديولوجي، والأشد عنفا على الصعيد العملي الميداني أظهر طبائع متناقضة على الجبهتين العراقية والسورية.
ففي الوقت الذي كان يمارس نهجا متطرفا عنيفا مع حركات المعارضة المسلحة في سوريا ويخوض حروبه وفق منطق الحروب الجديدة ويعتمد على فرض سيطرته المكانية بالقوة الباطشة، ويتعامل مع خصومه من الإسلاميين باعتبارهم صحوات ومرتدين، أظهر طبائع مغايرة تماما على الجبهة العراقية، فقد عقد تحالفات مع قوى وفعاليات وحركات سياسية وعسكرية وعشائرية سنية أقل التزاما إيديولوجيا ودينيا وأكثر عداء تاريخيا لجماعة الدولة، وخاض حربه في العراق وفق مبادئ حرب الأنصار، وتعامل مع خصومه من الإسلاميين وحتى العلمانيين باعتبارهم ظهيرا ونصيرا.

لا شك أن سلوك تنظيم الدولة في العراق حمل أشد أعدائه في الفضاء السلفي الجهادي وتنظيم القاعدة على التزام الصمت وانتظار تطورات المشهد، فقد عمل التنظيم على بناء استراتيجية خطابية ملتبسة لكنها فعالة، وواستراتيجية قتالية هجينة تقوم على ركنين أساسيين:

أولا: نجح التنظيم في بناء تحالف سني مع قوى وفعاليات وحركات عراقية على أسس هوياتية دينية، وتمكن من الظهور كدرع فعال في حماية وصيانة الهوية السنيّة الممتهنة بفعل سياسات المالكي الطائفية، وعلى مدى ثلاث سنوات من الاحتجاجات السنية السلمية في العراق والحراكات الاحتجاجية السنية المسلحة في سوريا، برع التنظيم في البرهنة على خواء العملية السياسية وعدم جدوى المطالبات السلمية، وتصوير الصراع مذهبيا طائفيا بين السنة والشيعة، والتأكيد على غياب رؤية واضحة للدول السنية في المنطقة في التعامل مع إتلاف شيعي متحد تقوده إيران، كما برهن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام على فشل سياسات النخب السنية العراقية في توفير الحد الأدنى من العدالة ومواجهة فساد العملية السياسية التي بنيت منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 على أسس هوياتية مكنت المكونات الشيعية من الهيمنة تحت غطاء حكم الأغلبية، وبهذا تحققت رؤية تنظيم “داعش” بأن الطائفية هي المحرك الأساس للسياسات المحلية والإقليمية، وقد بلغت مقولة المحركات الطائفية أوجها مع  دخول الثورة السورية عامها الرابع والتدخل الإيراني الصريح في دعم نظام الأسد العلوي، ومن خلال الدفع بالمليشيات الشيعية العراقية وحزب الله اللبناني بصورة فجة.

ثانيا: حقق تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام نجاحا جيوسياسيا في اختراق المنظومة الدولية الحديثة، وقدم نفسه بصورة لافتة كأمين على وحدة الأمة الإسلامية عبر تحدي نظام الدول القطرية الذي وُضِع عام 1916، مع الترسيمة الاستعمارية  على أيدي الديبلوماسي البريطاني مارك سايكس ونظيره الفرنسي فرانسوا جورج بيكو، وقد رسخ التنظيم صواب نهجه  العابر للحدود القومية على أسس دينية تعيد إلى الأذهان صورة الامبراطورية الإسلامية، في الوقت الذي برزت فيه تكيفات سلفية جهادية تتعامل مع واقع الدولة الوطنية.

على الرغم من النجاحات الآنية  الكبرى التي حققها التنظيم خلال فترة وجيزة، لا اعتقد بأن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام يشكل نموذجا إرشاديا هاديا وجذابا للمسلمين عموما والسنة خصوصا، فحالة الانبهار  سرعان ما تبدأ بالخفوت، ثم التراجع والأفول.

فالأساس الهوياتي المتخيل لتنظيم الدولة سوف يتصدع في مواجهة هويات هجينة مختلطة تجمع بين الهويات العرقية الإثنية والهويات الدينية المذهبية كما هو حال الأكراد الذين بشكلون التحدي الأبرز للمنظور الهوياتي لتنظيم “داعش” فهم أكراد إثنيا عرقيا وسنة وشيعة مذهبيا إسلاميا، ولذلك عجز التنظيم عن إحداث اختراق تاريخي للسلفية الجهادية الكردية وحافظت جماعة “أنصار الإسلام” على استقلاليتها عن “داعش”، بل إن التحدي الأكثر جدية لخريطة سايكس وبيكو تأتي من تنامي النزعة الاستقلالية الكردية، الأمر الذي استثمرته بنشر جيش حكومة الإقليم ــ البيشمركة ــ ، في مدينة كركوك الاستراتيجية الغنية بالنفط كما يعزّز المطالبة باستقلال  الأكراد في سورية، على الرغم من الخلافات التاريخية بين الحزب الديموقراطي الكردي في العراق وحزب الاتحاد الديموقراطي في سورية.

وعلى صعيد الأبنية الاجتماعية التقليدية فإن الأساس الهوياتي الطائفي لتنظيم “داعش” لا ينسجم تماما مع المكونات القبليّة والعشائرية على طرفي الحدود المهدمة غرب العراق وشرق سوريا التي لم تكن الحدود بالنسبة لها شيئا مقدسا ولا يهيمن المنظور السلفي الجهادي على تصرفاتهم، وهم منقسمون على الطرف السوري بين تأييد نظام الأسد أو جماعات الثورة المسلحة على اختلاف توجهاتها ومن ضمنها “جبهة النصرة” الموالية لتنظيم القاعدة، وأعلن بعضها ولاءه لتنظيم دولة البغدادي، إلا أن جميع هذه الولاءات لا تتسم بالصلابة وتنبني غالبا على أسس مصلحية واهية، الأمر الذي نجده بصورة شبه مطابقة مع سلوك العشائر العراقية التي يقاتل بعضها في صفوف المالكي، وتتوزع ولاءاتها بين جماعات وقوى وفعاليات معارضة من بينها تنظيم الدولة الإسلامية، وبهذا فإن الأساس الهوياتي الطائفي لداعش لا يعدو كونه قشرة رقيقة لهويات أخرى فاعلة.

أحد أهم التحديات التي تواجه تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام وتعمل على تصدعه، هو طموحاته اليوتوبية الفائقة ونزعته البراغماتية الفجة، ففي الوقت الذي يشدد فيه إيديولوجيا على كونه يمثل حركة أممية إسلامية عابرة للحدود، فإنه يمارس عمليا “عرقنة” التنظيم، فمعظم قيادات التنظيم الفاعلة على مستوى القيادة عراقيون، الأمر الذي ينذر بتفجر الخلافات بين الجهاديين العرب والأجانب الإسلاميين المعولمين الذين لا يكفوا عن بعث رسائلهم المهددة لدولهم الأصلية بالعودة فاتحين، وقد أظهر سلوك التنظيم مفارقة ظاهرة في تعاملة الناعم مع خصومه في العراق وتعامله الصلب مع خصومه في سوريا، وقد حاول التنظيم رأب الصدع بالتوجه نحو تنفيذ عمليات مسلحة في لبنان للحفاظ على حالة التنشيط الهوياتي الطائفي في مواجهة إشكاليته البنيوية في العراق وسوريا.

خلاصة القول أن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام لا يمكن أن يحظى بحواضن دائمة في العالمين العربي والإسلامي، وإنما يتحصن بحواضن مؤقته تقوم على استثمار العامل الهوياتي إبان الأزمات، ولا يشكل نهج التنظيم المتصلب نظريا وعمليا جاذبية لشعوب المنطقة على صعيد الحكامة، ولا يدشن نموذجا تطبيقيا ممكنا بالعقد والاختيار وفق نموذج الخلافة التاريخي الإسلامي، فهو يعتمد تراث الاحكام السلطانية المستندة لفقه التغلب والشوكة عبر فرض سيطرته المكانية بالقوة في أماكن رخوة ومأزومة، وبهذا لن يتمكن التنظيم بخمسة عشر ألف مقاتل من السيطرة على مساحات شاسعة، لكنه قادر على زعزعة الأمن والاستقرار الهش في ظل التحشيد الطائفي والخراب الاقتصادي والفساد السياسي والظلم الاجتماعي الذي بات متفشيا في المنطقة.

 

السابق
30 جثة في مركب للمهاجرين انقذته البحرية الايطالية
التالي
قصة زلفا وسهيل