تطورات العراق تقطع الطريق البري بين طهران وبيروت

سيظل السؤال الحاسم في السيناريوهات المحتملة على الأرض العراقية مرتبطاً بخريطة الأطراف المنخرطة في التمرد المسلح: «داعش» و«جيش رجال الطريقة النقشبندية» بقيادة عزت إبراهيم الدوري نائب الرئيس العراقي السابق صدام حسين، إضافة إلى مسلحي العشائر وحزب البعث ووزنها النوعي، بالإضافة إلى مستوى التناقضات في ما بينها. ما يجري في العراق ليس مفاجأة للمتابعين ولا من صنع «داعش» فقط، إذ إن عوامل الانفجار كانت قائمة طيلة العام المنصرم 2013. اقتباس لا مفر منه: «لا تبدو الأحداث في العراق مثل تمرد مناطقي، فالموضوع أعمق من ذلك بكثير، إذ يعبر عن إحساس العرب السنّة بالحيف من تمثيلهم في النظام السياسي العراقي الجديد. وهكذا تحولت «مظلومية الشيعة» في العقود الماضية إلى «مظلومية السنّة» في السنوات العشر الأخيرة، بحيث يشعر العراقيون السنّة أن هناك محوراً يبدأ من إيران ماراً ببغداد وصولاً إلى النظام في سوريا و«حزب الله» في لبنان لتهميش الحضور السني في المنطقة، وبالتالي يتكرّس الصراع في العراق بأبعاد طائفية – إقليمية؛ وليس فقط للغبن الذي يشعر به السنّة تجاه تمثيلهم السيئ في النظام السياسي العراقي». (مصطفى اللباد: السفير – العراق على حافة بركان 29 نيسان 2013). من جهة ثانية، لا يمكن لبضع مئات أو حتى آلاف من مقاتلي «داعش» أن تسيطر على مساحة قدرها مئة ألف كيلومتر مربع ممتدة ذات أغلبية طائفية معلومة من غرب إلى شمال العراق، من دون تأييد عشائري وسياسي واضح من سكان هذه المناطق. ربما يكون الحدث الإقليمي الأبرز في تطورات الأحداث العراقية متمثلاً في قطع الطريق البري بين طهران ودمشق، وهي نتيجة ذات أهمية كبرى على موازين القوى الإقليمية وحساباتها.

حسابات تركيا

تحالفت تركيا مع أكراد العراق طيلة السنوات الماضية، على الضد من حكومة بغداد المركزية وضمن إطار منع دولة كردية من الظهور في شمال العراق. وتنسج أنقره علاقات ممتازة مع السيد مسعود البارزاني، الطامح في تصدير نفط أقليم كردستان العراق عبر الأراضي التركية إلى العالم الخارجي، للسيطرة على الطموحات الكردية بوسائل القوة الناعمة. وفي هذا السياق، كشفت مصادر غربية النقاب عن شراء الإقليم لمصفاة نفط على البحر الأسود بالقرب من طرابزون التركية، لمعالجة نفط الإقليم ومن ثم تصديره عبر الموانئ التركية إلى البحر المتوسط والعالم الخارجي. وبسبب الطموح البارزاني في تصدير النفط، فقد اشتعل التنافس بين أربيل وبغداد بالرغم من حاجة المالكي إلى المقاتلين الأكراد لموازنة المسلحين السنة في الموصل وشمال العراق، مع العلم بأن مؤيدي السيد جلال طالباني يعتقدون أنه من الأفضل للمصالح الكردية العليا أن يحصل الأكراد على حصة 17% من كامل النفط العراقي بحسب الدستور، والاحتفاظ بالنفط الكردي بباطن الأرض للأجيال القادمة. في كل الأحوال، دخل الأكراد إلى كركوك عسكرياً، وقاموا بخطوات سريعة لضم المدينة الغنية بالنفط إلى إقليم كردستان، وهو أمر سيصعب مهمة أنقره في كبح قيام الدولة الكردية في المستقبل. كما أن قضية المحتجزين الأتراك وعددهم ثمانون، ستضغط على أردوغان أكثر فأكثر. ستحاول تركيا توسيع نفوذها في بلاد الرافدين. وهناك حوالي 2000 جندي تركي في إقليم كردستان العراق، مثلما هناك مزاعم تركية تاريخية في لواء الموصل استمرت منذ سقوط الدولة العثمانية وحتى نهاية العشرينيات من القرن الماضي. وفي النهاية، هناك حسابات تركية بخصوص غريمها الاقليمي إيران، الذي تتفاهم معه، وتتصارع معه، في ملفات العراق وسورية وفقاً لقاعدة مفادها أنه كلما اتسع فراغ القوة في المشرق العربي، استعر التنافس عليه بين أنقره وطهران.

مأزق إيران

يتمثل لب المصلحة الإيرانية في العراق في منع أي حكومة عراقية جديدة من مواجهة إيران عسكرياً كما فعل صدام حسين سابقاً. هنا ثلاثة مكونات تمثل جرس إنذار لطهران: الطابع العسكري للنظام والهيمنة السنية عليه والدعم الغربي له. لذلك عملت إيران على منع العراق من امتلاك قوة عسكرية ضاربة بعد 2003، وثبتت تحالفاتها الشيعية في سلطة بغداد المركزية، ومنعت أميركا من الهيمنة عليه بعد احتلاله. بعد انسحاب أميركا تحكمت طهران في سلطة بغداد المركزية، فربحت نفوذا لا يضاهى لأول مرة منذ تأسيس العراق. لذلك سعت طهران لتثبيت سلطة المالكي في بغداد بالرغم من تحفظاتها على إدارته للعملية السياسية، وبالرغم من تفتت الطيف السياسي الشيعي بين أحزاب وميليشيات مختلفة. الآن تواجه طهران مأزقاً مفاده أن قوات المالكي لم تصمد أمام التمرد المسلح، ما استلزم رفدها بالميليشيات الشيعية. ولكن كلما زادت قدرة الميليشيات على الأرض ستضعف حكومة المالكي ويتراجع التماسك في حكومة بغداد المركزية، ما سيسبب مشاكل لإيران. كما أن انخراط إيران في الصراع أكثر سيستفز خصومها من العرب أكثر، ويوحد الفصائل المناوئة لها على اختلاف أيديولوجياتها. فضلاً عن أن تزايد حدة الصراع المذهبي، سيمنع حكومة المالكي من استقطاب العرب السنة سواء في الحكومة أم في العملية السياسية أم في مواجهة الجهاديين. وفي النهاية، النتيجة على الأرض الآن هي قطع الطريق البري بين طهران وبيروت، ما يضاعف المأزق الإيراني.

هواجس السعودية

ترى الرياض فرصاً سانحة في العراق الآن لتعديل مسار التطورات الإقليمية؛ إذ إن التقارب الأميركي – الإيراني مثل هاجساً إقليمياً للسعودية. لا تملك الرياض الكثير من الأوراق لتخريب الاتفاق الأميركي – الإيراني مباشرة، فاضطرت قبل أسابيع لفتح حوارها الخاص مع طهران عبر دعوة سعود الفيصل لنظيره الإيراني جواد ظريف. ومع الاضطرار المذكور، تحاول الرياض عرقلة المصالح الإيرانية في العراق عبر علاقاتها العشائرية في غرب البلاد والموصل، ما يجعل التفاوض السعودي – الإيراني مريحاً نسبياً للرياض. أظهرت الأحداث في كامل المشرق العربي أنه من الصعوبة بمكان لقوة إقليمية واحدة السيطرة على الوضع بمفردها، حتى مع نجاح النظام السوري في البقاء حتى الآن. تجلب التطورات في العراق معها فرصا عدة للسعودية التي تملك علاقات عشائرية لا يستهان بها في غرب العراق والموصل: أولاً إصابة غريمها الإقليمي إيران في منطقة حساسة. ثانياً الاستفادة من سعر النفط المرتفع جراء الأحداث في العراق (أكثر من 113 دولار للبرميل في أقصى ارتفاع هذه السنة مضروباً في عشرة ملايين برميل تصدرها السعودية يومياً) للمزيد من العرقلة الإقليمية مقابل إيران المحاصرة نفطياً واقتصادياً. ثالثاً استقطاب روسيا إلى جانبها للتعويض عن الفتور في علاقاتها بإدارة أوباما. ويتأسس استقطاب روسيا على مثلث مصالح مشتركة بين الرياض وموسكو: الأولى تخريب التقارب الأميركي – الإيراني، والثانية إبقاء أسعار النفط مرتفعة فوق مستوى مئة دولار للبرميل وروسيا من أكبر مصدري النفط في العالم. الثالثة إغراق أميركا في أوحال المنطقة، فتعود للانخراط في العراق ما يجعلها منطقياً توازن إيران ـ حتى ولو تعاونت معها مرحلياً – وهي مصلحة سعودية، كما أن انخراط أميركا في العراق سيجعلها تكف عن اللعب في ما تعتبره موسكو حديقتها الخلفية أي أوكرانيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، وهي مصلحة روسية واضحة.

سيناريو الفترة المقبلة

تأسيساً على حسابات وهواجس الأطراف الإقليمية، سيكون سيناريو الفترة المقبلة أقرب إلى التالي: ستدفع إيران المالكي إلى إجراء مفاوضات مع شخصيات سنية عراقية بارزة برعاية أميركية على قاعدة تمثيل أفضل للسنة في الحكومة المركزية، وذلك لتشتيت التأييد السني للميليشيات المسلحة. وبالتوازي مع ذلك، ستشرف طهران على حشد الميليشيات الشيعية والدفع بها عسكرياً في اتجاهين: تكريت شمالاً ومن ثم إلى مصفاة بيجي النفطية، ومن بعقوبة باتجاه محافظة ديالى في الشمال الشرقي من بغداد؛ وصولاً إلى استعادة زمام المبادرة العسكرية.
بدورها، ستعمد تركيا إلى تعزيز حضورها في شمال العراق عبر زيادة عديد قواتها المرابطة بالفعل في كردستان العراق (حوالي 1500 مقاتل)، والضغط على مسعود بارزاني لمنعه من التحالف عسكرياً مع حكومة المالكي، واستخدام نفوذها في شمال العراق لمنع اقتتال سني – كردي في مناطق التماس وتغليب التناقض مع حكومة المالكي على ما سواه. كما أن فتح قنوات مع المسلحين بهدف الإفراج عن مواطنيها المحتجزين، سيمكنها من الإطلال على طيف أوسع من الأطراف المتصارعة على الأرض. من ناحيتها، ستستثمر السعودية علاقاتها العشائرية للاحتفاظ بسقف عال من المطالب السياسية السنية لمنع تعويم نوري المالكي سياسيا،ً وستستمر في التصويب عليه باعتباره جزءا من المشكلة لا الحل، وصولاً إلى مفاوضات تتناول جوهر السلطة في بغداد. ولا يخفى في النهاية أن العامل المحلي أي الوزن على الأرض العراقية سيؤثر في حسابات وخيارات الأطراف الإقليمية، مثلما سيفرض سلوك واشنطن وموسكو حيال ما يجري قيوداً على هامش حركة الأطراف الإقليمية في الصراع على العراق!

السابق
هل ينجح «الحراك السني» في لبنان؟
التالي
من يملك أقوى جواز سفر في العالم؟

تابعوا اهم اخبارنا على تطبيق الوتساب

يقدّم موقع جنوبية مواضيع خاصّة وحصرية، تتضمن صوراً ووثائق وأخباراً من مصادر موثوقة ومتنوّعة تتراوح بين السياسة والمجتمع والاقتصاد والأمن والفن والترفيه والثقافة.

مجموعة جنوبية على الوتساب