كل فلسطين.. لكل الفلسطينيين

تتوالى المواقف ومحددات الخطاب السياسي وتعاطيه مع القضية الفلسطينية منذ نحو مائة عام، وتحديداً بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وتم إحتلال فلسطين من قبل بريطانيا، مروراً بوعد بلفور في الثاني من تشرين الثاني نوفمبر من العام 1917، وتلتها الموافقة الدولية على الإنتداب البريطاني على فلسطين في العام 1918، ثم جاء مؤتمر سان ريمو في العام 1920 ليكرس الإنتداب معتبراً الوعد المشؤوم جزءً منه، وبعد ذلك جاءت عصبة الأمم في العام 1922 لتقر بالإنتداب وبما فيه الوعد، وكذلك فعلت الأمم المتحدة عندما قامت في العام 1945 حين أقرت بشرعية قرارات عصبة الأمم بما فيها الوعد. لينتهي الجزء الأول من المرحلة العصيبة بقيام دولة الكيان فوق أرض فلسطين في منصف أيار / مايو بعد ارتكاب العصابات الصهاينة للعشرات من المجازر وطرد مئات الآلاف من السكان ومصادرة واغتصاب أملاك الفلسطينيين والتسبب باستمرار أكبر وأهم حالة لجوء في العالم، لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا..

يرتفع وينخفض منسوب تلك المواقف لتشكل تارةً رافداً داعماً يساند القضية الفلسطينية بكل مكوناتها، وطوراً ليقع في إخفاقات – وللاسف – استراتيجية منهجية تشكل مفصلاً إن لم نقل مفاصل تنعكس بدورها على مكونات الشعب الفلسطيني بشرائحه وتطلعاته المختلفة سواءً بالسلب أو بالايجاب، بدءً بالنخب وصناع القرار ومروراً بالحالة الشعبية وما يمثلها من مؤسسات وحراك على مستوى المعمورة.. لتصبح الثوابت الفلسطينية أحياناً محل جدل..! وكأن حدود البحر والنهر قد تغيرت بفعل لعبة التسوية والمفاوضات اللاعبثية؛ تنازل المفاوض الفلسطيني عن 78% من أرض فلسطين بعد توقيع إتفاق أوسلو في العام 1993 واعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بـ “إسرائيل”، وتم تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني.. والخوض في عدد لا يحصى من الصولات والجولات من اللقاءات والإملاءات ومعه استشرى سرطان الاستيطان في الضفة، وجدار الفصل العنصري يتلوى كالأفعى الخبيثة بين شوارع وأزقة ومؤسسات وأراضي الضفة بحُجة الأمن..، وليتم تقسيم العبادات في الحرم الإبراهيمي الشريف زماناً ومكاناً بين المسلمين واليهود، وكذا زماناً في المسجد الأقصى المبارك، وأعمال التهويد لا تتوقف، وعمليات القتل والتنكيل والاعتقال والحصار تتزايد أمام سمع وبصر العالم، وتنكُّر تتوارثه الحكومات الصهيونية المتعاقبة بعدم عودة اللاجئين الفلسطينيين، ومحاولات لا تتوقف لتكريس ما يسمى بيهودية الدولة وتبادل للأراضي والسكان..

يتسع الفضاء الإستراتيجي للقضية الفلسطينية لجميع المكونات الوطنية والبرامج السياسية لجميع الأطراف، بما يحفظ ثوابت أن كل فلسطين لكل الفلسطينيين، وبدون أية تفسيرات أو تأويلات سواءً باستخدام التكتيك أو مرحلية البرامج.. لذا للحفاظ ولحماية “الكل الفلسطيني”، لا يمكن التخلي عن برنامج ونهج مقاومة الإحتلال المشروعة، والمعترف بها بكل المواثيق والمعاهدات الدولية، وبجميع أشكالها العسكرية والسياسية والشعبية والحقوقية والمدنية والثقافية والاخلاقية والأدبية والإنسانية… كمشعل يُستضاء به في حلكة الظلام والأوهام والتفسيرات المختلفة، فالصراع السياسي بين فرقاء القضية الواحدة يجب أن يكون على من يحقق النقاط الأكثر في مرمى الخصم، لا مساعدة الخصم على تحقيق الأهداف في مرمى أحدهما للآخر..

ما يجري في فلسطين من إرادة مُقاوِمة تمثلت بأشكالها المختلفة، وآخرها التسبب بحالة الهستيريا للإحتلال بسبب فقدان ثلاثة من الجنود المستوطنين الصهاينة..، مروراً بمحطات اقليمية ودولية تساهم في محاصرة وعزل وفقدان شرعية وجود “دولة إسرائيل” على الساحة الدولية، من استخدام سلاح المقاطعة بكل انواعها وأساليب الضغط الإبداعية التي يمارسها نشطاء في الغرب على المستوى الشعبي والنخبوي.. لتتحول صورة الإحتلال كالوباء المعدي بين الناس.. يضاف إليه النضال والمقاومة من داخل بيت الأمم المتحدة أو الإنضمام الى المؤسسات الدولية، هذا الكل يعتبر رصيد محوري في سياق الصراع مع الاحتلال.. فالمقاومة تحتاج رجالها؛ رجال نتاج مؤسسات وطنية ثابتة لا تخضع لضغط الأمر الواقع أو البراغماتية السياسية، تستمد من الإجماع الشعبي رؤيتها ومنهجها، وبالتالي لا تجاوز للخطوط الحمر في الثوابت، فالمقاومة أوجدت معادلة أن الضعف في المنطقة لن يستمر الى الأبد، وأن التحولات في المنطقة ستغير الموازين الى بزوغ فضاءات متحدة وقوية داعمة للمقاومة وتحرير فلسطين ولو بعد حين.

بوصلة الشعب الفلسطيني لم ينحرف إتجاهها والعين التي رأت النهاية منذ البداية لم تزيغ، وموسم القطاف قد اقترب وهو قاب قوسين أو أدنى، ودم الشهداء لن يذهب هدرا، وعذابات وصبر الاسرى لن يطول بإذن الله، والمستوطنات ستزول.. واللاجئون قد بدؤوا بإزالة الصدأ عن مفاتيح بيوتهم العتيقة، فالشعب الفلسطيني في أشد مراحل آلام المخاض، وما كان هذا ليتحقق لفلسطين وللكل الفلسطيني بدون الحضور الكامل… للمشعل

السابق
العراق وخطورة اللعبة الإيرانية
التالي
اسلاميون ام مسلمون؟