عودٌ على ذمية

كل المسألة تكمن في “المناخ”، إيجاد المناخ، أو التشجيع عليه، ثم المضي به قدماً. كيف يحضر الإسلام الجهادي للمناخ في لبنان؟ كيف يعد لإستقباله مظفراً على ظهر حصانه الأبيض بعد ان يتجاوز كل الحدود الوطنية الممكنة؟ يلتقط المناخ ويشتغل به، أو عليه، حتى تتهيأ البيئة الحاضنة له، فيكون ما يكون. هذه الإستراتيجية اعتمدها “داعش” في الموصل قبل ان ينقضّ على المدينة بـ”وثيقة المدينة”، المكرِّسة لـ”إنتصاره”.
منذ سنوات و”داعش” يأخذ الأتاوات من أهل الموصل، ويفرض الجزية على مسيحييها كأهل ذمة، وبشكل علني. وبعدما سيطر عسكرياً على الموصل، سارع إلى إصدار “وثيقة المدينة” تلك، والتي لا نحتاج إلى خيال كبير لتصوّر مضامينها: مجموعة من الممنوعات والتحريمات والعقوبات الجسدية البربرية، والإنتهاكات للرموز الدينية المسيحية، وفرض الجزية على المسيحيين. ناهيك عن العنصرية المذهبية ضد الشيعة، أو تكفير المسلمين السنة، “المرتدين”، الذين لا يشاركون في الصلاة الإجبارية خمس مرات في اليوم… والبقية تأتي مما نعرفه عن الحياة في ظل حكم داعشي، في التجربة المنيرة التي خاضها الداعشيون في مدينة الرقة السورية، قبل ان يسجلوا نجاحاتهم في العراق، وعلى حدود الأردن، وربما السعودية.
هذه المعطيات “الإقليمية” العربية، الفائضه رعباً وقصاصاً وقتلاً، لا بد أنها وصلت إلى مدينة صيدا اللبنانية، الخارجة لتوها، منذ سنة بالضبط، من جحيم “الشيخ” السلفي أحمد الأسير. لا تكاد المدينة أن تتنفس شيئاً من الأمن، حتى بلغتها الأجواء الداعشية، فلبْنَنته ومنحته حيزاً شرعياً. عبرا، وهي بلدة تقع شرق صيدا، مسيحية، وقد تركها معظم أهلها، أخلوها للعائلات الصيداوية المسلمة، التي إستملكت أراضيها وسكنت في مرتفعاتها. رئيس بلديتها، وليد مشنتف، لا بد انه استشعر المناخ، تنشّقه، فقال لنفسه بأنه، تجنباً لتبعاته، نحن سكان عبرا المسيحيين، علينا التصرف وقائياً؛ وهذا سلوك استبطنه مسيحيو صيدا بقوة، قبل ظهور “داعش” وإجتياحاتها العسكرية. فهم يسمعون صفة “ذمي” في الشاردة والواردة من أيامهم؛ ومنذ سنوات عديدة، على لسان الأصولية الشيعية بداية، التي تتسم بالكثير من التعقل والحنكة، ثم على لسان الأصولية السنية، الرعناء، التي تختلف عن الشيعية لكونها آتية من الصحراء، وليس من ورثة دولة إمبراطورية ذات حنكة عالية…
عند هذا الحد، المناخ الذي خلقه “داعش” في الأراضي القريبة، كان لا بد أن يجد صداه غير الرسمي، غير المُصاغ، في أرض صيدا اليومية. وكان حدس رئيس بلدية عبرا هو الأقوى من بين من التقطوا إشارات هذا المناخ. لذلك، وبمناسبة إقتراب شهر رمضان المبارك، أصدر تعميماً إلى مقاهي ومطاعم البلدة، يناشدهم فيها بعدم المجاهرة بالأكل أثناء الشهر الكريم، منعاً لخدش مشاعر الصائمين؛ أي بمعنى آخر، توقيف أشغال هذه المرافق طوال شهر رمضان. وهذا التعميم مخالف لقوانين لبنان ودستوره، التي تنصّ صراحة على حرية المعتقد ويحتضنان تنوع الطوائف. هو تعميم أقرب ما يكون إلى تلك الدول العربية التي هيأت للأصولية الأكثر عنفاً وتطرفاً عبر تغذيتها لهكذا نوع من المناخات؛ فكان ما كان من مصائب وعقوبات تنهال عليها من كل حدب وصوب. تعميم لا يحترم مشاعر المسيحيين، فضلاً عن مشاعر المسلمين الذين لا يرغبون بالصوم أو لا يقدرون عليه. وأفدح الخسائر هذا المناخ، الأقوى من القانون ومن الدول والأوطان، هو ذاك التصور الذي يوضع فيه المسيحي في الفضاء الذمي، الدوني، المأمور، دافع الجزية… فيتصرف على هذا الأساس، لكي يتمكن من التكيف عندما تتحقق دولة العقوبات الإسلامية، أو يرحل كما رحل أسلافه.
قيل بأن وليد مشنتف أصدر هذا التعميم بناء على ضغوط من شيخ مرموق، من دار الفتوى، جناح المفتي رشيد قباني. وقيل أيضا بأنه، أي وليد، فعل ذلك بمبادرة خاصة منه، من دون تعليمات أو أوامر. وسواء كان الأمر إذعانا أو تحسباً، فانه يعبر عن المناخ، ويساهم، بلا قصد وبلا وعي ربما، في غرسه في نفوس أترابه من مسيحيي عبرا. والمناخ أقوى من القوانين والدساتير. وفي هذه اللحظة بالذات، حيث لا يتوقف الكلام عن تقلص عدد المسيحيين في المشرق، نتيجة تدمير أضرحتهم وضرب مواطنتهم، ومعاملتهم بروح ذمية مباشرة، وفي لبنان نتيجة تراجعهم السياسي بلسان الطوائف المتناحرة، فان تعميم رئيس بلدية صيدا يأتي ليعزز مخاوف المسيحيين الصيداويين واللبنانيين، بعد مخاوف اللادينيين من أبناء الطوائف اللبنانية كلها… مخاوف من مجرّد مناخ!؟

السابق
بري: للاستثمار في الأمن ولا رئيس قريباً
التالي
الرئيس رشيد الصلح في ذمة الله