قراءة في ما آل اليه الربيع العربي (1)

محمد حسن الأمين

في قراءة فكرية تاريخية موسّعة حول “الربيع العربي” وما آل إليه، يعرض العلامة السيد محمد حسن الأمين في هذه الحلقة تاريخ هذا الحراك الذي انبثق عنه ثورة الربيع العربي.

 

ليس من الجائز أن يختصر الربيع العربي بالرؤية المباشرة لما يحصل عن مستوى العالم العربي، وذلك بوصفه حدثاً تاريخياً لا يمكن فهمه إلاّ بالرجوع إلى الجذور التي كانت تنمو شيئاً فشيئاً لكي يتولّد عنها حدث ما، هذا الحدث الذي نسميه اليوم: الربيع العربي.
على المستوى التاريخي لا يمكن أن نتجاوز المرحلة أو الفترة التي بدأت تبرز فيها تطلعات التغيير في المنطقة العربية، وحتى في جزء من المنطقة الإسلامية.

فإذا أردنا أن نختصر وجهة النظر التاريخية في البعد الراهن فالحدث الرئيس والمؤثر كان “إنهيار الدولة العثمانية”، إذ نلاحظ أنه في هذا المفصل من التاريخ بدأ ما يسمى “عصر النهضة”، في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20. لأنه كان يوجد شعور حتى ذلك العصر من نخب ظهرت وأطلق عليهم لقب “رجال النهضة”، اكتشفت أن المسار التاريخي الذي يتجه إليه العالم العربي هو مسار إنحداري، من تفكك واضمحلال، فبرزت فكرة النهوض.


هنا لم يكن المطمح الفكري والمطمح السياسي في ذلك الوقت هو “الربيع العربي” ولكن سمي “بعصر النهضة”، ما يعني التطلع إلى حركة نهوض. وقد كان في وعي رجال النهضة أن تعطى للشعوب دوراً، فبدأوا يدعون إلى التعليم ونشر الوعي، وهذا شكل من أشكال الربيع العربي وحركة النهوض.


هذه الإرهاصات لم تكن دون نتيجة، فقد نتج عنها أن العالم العربي استطاع أن يشكل دولاً وحكومات تحت تأثير الأفكار الغربية، دولاً وحكومات نشأت معها النزعة القومية العربية، وهذه النزعة لم تنشأ بعد سقوط الدولة العثمانية إنما نشأت إبان انهيار الدولة العثمانية عندما بدأت الشعوب تتطلّع إلى دور وإلى خلاصها ومستقبلها، وكانت النزعة القومية قد سبقت في أوروبا، فقد قامت النهضة الأوروبية على أساسها، فنشأت في العالم العربي ما سمّي بالدول القومية.

غير أن هذه النهضة القومية كان فيها اتجاهات، فكان فيها اتجاه سلبي يدعو إلى عودة الخلافة العثمانية، الإسلامية، وأنا أعتبره اتجاهاً سلبياً ليس بالمعنى الأخلاقي أو الاجتماعي، بل من الناحية السياسية. فهذا الاتجاه جاء معزولاً عن تطورات التاريخ. أما الاتجاه الآخر، والذي اعتبره إيجابياً في ذلك الوقت، فقد كان يرى أن العالم العربي إذا أراد النهوض فلا بدّ له أن يلتزم التزاماً دقيقاً بما حصل في أوروبا من نهضة. لا أن يتخلى العرب فقط عن فكرة الخلافة العثمانية، بل أن يتخلوا كلياً عن فكرة إقامة كيان إسلامي أو الرجوع إلى الإسلام، فلا بدّ من تقليد الغرب في إقامة دول على أساس مدني.

وهذه النزعة لم تستقبل استقبالاً حسناً في كثير من أوساط العالم العربي، لذلك فقد وجدنا خطاً ثالثاً إلى جانب هذين الخطين وهي النزعة “الانتقائية” التي كانت ترى أنه يمكن الجمع بين الاتجاه الذي يطالب من الاستفادة من تجربة المسلمين والعرب ممزوجة مع الاتجاه الذي يتطلع إلى الحضارة الغربية. وهذا الاتجاه لم يكتب له النجاح أيضا، لأن الكيانات التي قامت بعدها في بلادنا رست على اتجاه قومي، وتطورت النزعة القومية وأصبح هناك اتجاهات داخلها فدخلت إليها الاشتراكية والأممية فيما بعد.
هذه التجربة الطويلة نسبياً في تاريخنا المعاصر، في النهاية فشلت. فلم تحقق الغايات لا من حيث الأهداف السياسية ولا من حيث الأهداف الاقتصادية والتنموية، بسبب تغييب الديمقراطية، ولم تستطع أن تحقق الحريات التي كان يمكن أن ترتقي بالاجتماع العربي من اجتماع متخلّف إلى اجتماع متقدّم، كما لم تحقق القدر المطلوب من محو الأميّة في العالم العربي، ومن إنتاج العدد المطلوب من ذوي الكفاءات الذين يقودون المؤسسات الحديثة، وبالتالي انهارت هذه المرحلة القومية، ولم يبق أمام العالم العربي إلاّ الفراغ، خصوصاً أن المرحلة القوميّة اتسمت بأنها مرحلة انقلابية وليست مرحلة ثوريّة. بمعنى أن كل الأحداث والمتغيرات التي حصلت في الحياة السياسية كانت بمذهب الانقلابات العسكرية التي كانت تحصل في هذا القطر أو ذاك، لتأتي بحكومات ومؤسسات متشابهة من حيث خضوعها لقوة العسكر ولسلطة مستبدة غاشمة.

هنا بدأ ينضج شيئاً فشيئاً في الاجتماع العربي حراكاً لم يحصل في الماضي وهو ما أطلق عليه اصطلاح “الربيع العربي”. ذاك الذي بدأ في تونس ومصر وليبيا واليمن، في حركات هي شعبيّة بالتأكيد وطموحة لأن تستولد ربيعاً عربياً، ولكن لا يعني أن هذه الحركات لم تكن تواجه صعوبات كبيرة وجمّة، ما جعل مسيرة هذه الحركات الشعبية مسيرة مهدّدة بأخطار كثيرة.(يتبع)

السابق
بوتين أمر بوضع القوات الروسية في وسط البلاد بحال تأهب
التالي
بالفيديو.. داعش: سنتوجه إلى لبنان