شرٌ يرفع الظلم؟

كثيرون خاضوا في مهمة تعريف ما حصل مؤخراً في العراق: هل هو مؤامرة؟ خدعة؟ خيانة؟ جبروت قوة “داعش” العسكرية؟ أم فخ نصبه طرف اقليمي أو دولي؟ أم ورطة؟ أم لعبة انقلبت على ساحرها؟

ولكنهم لم يتفقوا، كأنهم يتناولون شائعة، مجرد شائعة.

في التعريف، يبدأ التفاوت في فهم واستيعاب وتفسير الحدث الداعشي. فبين المعسكرين المتخاصمين، المتعاطف مع أبطال الحدث والمعادي له، لا بل داخل كل معسكر، الإجابات متناقضة، متلعثمة، تفيد عن الفوضى الذهنية التي تسبّب بها.

وبعد التعريف، يقفز السؤال عن التخطيط: ويأتي الجواب بحسب التعريف، الخاضع بدوره لطبيعة المعسكر الذي ينتمي إليه المجيب. كل من يمكن ان يزعم، وعن حق، بقدرة على الحركة أو التدخل، كل من له “دور” في المنطقة، يكون هو المخطط للحدث. فاذا كان التعريف بأنه مؤامرة، مثلا، يكون الأميركيون أو السعوديون أو الإيرانيون، وخلفهم وكلاؤهم المحليون، وبأجهزة إستخباراتهم… هم المتورطون.

أما إذا كان التعريف بأنه “فخ”، فيكون أيضاً أحد هؤلاء الأطراف قد أوقع خصمه فيه، لكي يكون هناك تدخل يريده هذا الخصم أو ذاك الخ. وكله مرهون بطبيعة الإنحياز السياسي لصاحب الجواب.

حسناً، الآن، إذا كان الموضوع كله مجرد انقلاب سحر على ساحر، فما هي الحفرة التي وقع فيها السحرة؟ ما هي الأضرار التي سوف تلحق بهم؟ إيران هي التي وقعت في الحفرة؟ هي التي بسياستها التوسعية شجعت العصبية السنية العراقية لإحتضان الإسلام الجهادي؟ أم انه عمل تحريضي من السعودية لم تكن تتوقع منه أن يبلغ هذا الحدّ؟

وأكثر ما يثير شهية المفسرين هو السؤال عن “الحق”: الحق على من في حصول هذا الحدث؟ على الأميركيين الذين دمروا الجيش العراقي؟ على الإيرانيين الذين نشروا 
الإسلامية السياسية؟ على صدام حسين الذي تأسلم في السنوات العشر الأخيرة من عهده؟ على الخلفاء الراشدين الذين لم يحسنوا اختيار قادتهم؟ على معاوية؟ على الحسين؟ من أين كل هذه الجاذبية للخوض في “الأسباب التاريخية”؟ وكلٌ يختار منها ما يختار، كأنه يقطف ما تيسر من حديقة التاريخ الوارفة، انطلاقا من منظاره السياسي؟ يكاد يغوص في أبعد من هذه التواريخ، فيبحث عن أسباب الحدث الداعشي في قصة آدم وحواء: الأخيرة أكلت التفاحة، فهجم الداعشيون!

والأمر لا يتوقف عند هذا الحدّ. فالإختلاف يدور أيضا حول “المصلحة”: لمصلحة من حصل ما حصل في العراق مؤخراً؟ لمصلحة من أزيلت الحدود رمزياً وعملياً بين دولتين عضوين في الجامعة العربية والأمم المتحدة؟

بين الحساسية المفاجئة للمانعين لحصانة أوطانهم، والتي كانوا أول من خرقها بعدما سخّفها، وبين ابتهاج خصومهم الفاعلين على الأرض من انمحاء حدود استعمارية، رسمها المستعمر الصليبي لإضعاف الخلافة الإسلامية… بين الإثنين هوة في الشكل وإتفاق في مضمون. 
وسؤال المعنيين بهذا المحو للحدود، هل من مصلحتهم كل ذلك؟ ثم هل من مصلحتهم، القريبة والبعيدة، لكي يحصلوا عليها، أن تصاب الحيوات والأرزاق ومصائر الأوطان بخراب عميم؟ ألا يحسبون لعدوى الجوار أي حساب؟

والسؤال الوجودي الذي يلاحقنا بأبهج أوجهه الآن هو: هل يمكن ان يأتي خير من هذا الشر؟ هل يمكن للشر ان يحارب الظلم والتمييز؟ هل يمكن لـ”داعش” التي تلغي، بعقوباتها الوحشية منذ بيانها الأول، اضطهاد الأقليات أو الأكثريات؟ هل يمكن للحرب الأهلية والنزوح وتبديد الثروة الوطنية وضرب الحدود الوطنية والعيش تحت حكم أكثر شراسة من الذي سبقه… هل يمكن لكل ذلك أن ينتج تطوراً وازدهاراً واستقراراً وهناء، أو ماء وكهرباء وفرص عمل؟ هل يصحّ أن تسمّى كل هذه بالثورة، ورجالاتها بالثوار؟ على مجرد أساس انهم ينتفضون ضد التمييز الذي لحق بالسنة العراقيين؟  بل هل “داعش” هي “داعش”؟ هي نفسها المنبثقة من “القاعدة”؟ والمعروف بكل الفظاعات المرتبكة في المناطق السورية التي “حررها”؟ هل هي القائدة الفعلية للحدث العراقي؟

ثم، هل كان يمكن تجنّب ما حصل؟ بمعنى آخر، هل الحدث كان حتمياً؟ هل مكتوب على العراق العودة لنقطة الصفر، ومعه المنطقة كلها، لكي يتطهر من آثار الإستعمار وما قبله، فيعود نظيفاً بريئاً من التاريخ، ساذجاً وفقيراً… ونحن كلنا معه؟

كل التساؤلات ممكنة، وكل الإجابات عليها تحمل وجهاً من الحقيقة، حتى لو تناقضت. خذْ مثلا، التنسيق المقبل بين أميركا وإيران لمحاربة إرهاب “داعش”. ها هو سحر آخر ينقلب: فاذا أعطي لهذا التنسيق فرصة للتفيذ، فسوف تُحرم كل الممانعة من رأسمالها الرمزي الوحيد، “المقاومة”، القائم على أولوية محاربة الإمبريالية والصهيونية؛ تنتزع هذا الرأسمال الغالي الفصائل الإسلامية الجهادية. وساعتئذ خذْ على حروب بلا نهاية… أين منها بهلوانيات الممانعين؟ أين منها دمويتها وعبثيتها وانعدام جدواها؟

السابق
شهيد قوى الأمن الداخلي الذي سقط في التفجير يدعى (م.ج.)
التالي
’زلة’ عون ’تورطه’..فهل تحدد الرئاسة مصير عودة الحريري؟