عواصم المخيمات… عربية

عكس كل ضجيج الانتصارات الذي هوّل به حلفاء إيران في المنطقة العربية، وحين ينزلق العراق إلى مسار الخراب السوري، يمسك محور الممانعة بخريطة من نار: مزيد من القتل والدمار، والمآسي، والتشرد، وبين كل ذلك تتمدد عواصم المخيمات، العربية.

إيران في قفص المفاوضات النووية، ما زالت تقاوم من يرفضون مشاريعها وهيمنتها، تقاوم بدماء عربية! ومع حبل «داعش» على عنق نظام نوري المالكي، يلوّح الرئيس الإيراني «المعتدل» حسن روحاني بأفواج إيرانيين يتطوعون للقتال دفاعاً عن المراقد الشيعية و «للقضاء على الإرهابيين».
ومثلما في سورية قتل عراقيون وإيرانيون ولبنانيون سوريين «إرهابيين»، يستعد إيرانيون لقتل عراقيين «إرهابيين».

قبل سقوط الموصل وتكريت في أيدي المسلحين المعارضين للاستبداد في العراق، الذين اقتاد المالكي كثيرين من ذويهم الى مقصلة الإعدامات وسجون التعذيب السريّة، تناوبت بغداد وطهران على أدوار في تضليلٍ يأسر سنّة العراق جميعاً في رداء الإرهاب. على مدى شهور طويلة تظاهر عشرات الألوف منهم مطالبين بإنصافهم. أما ردود المالكي فمعروفة.

ولا يستطيع رئيس الوزراء بعد فضيحة سقوط الموصل وتكريت والتي يسمّيها بتواضع «نكسة»، أن يقنع أحداً بأن جيوش «داعش» أخذته على حين غرة وهو مطمئن نائم على حرير سطوته، تحت مظلة المرشد علي خامنئي… لا «داعش» بعثية ولا بقايا «البعث» هم كل السنّة في العراق الذين عاملهم جيش المالكي كأنه قوة احتلال، وهرب قادته من دون مواجهة مع «الإرهاب»!

من وقائع فيينا، حيث يحاور الأميركي الإيراني بوصف الثاني راعياً لنظام المالكي، ان تقترح واشنطن استبدال رئيس الوزراء وطي الأزمة. وبعدما أبدت استعداداً للتعاون مع حكومة روحاني في «مكافحة الإرهاب» في العراق، تحدث وزير الخزانة الأميركي عن اقتناع إدارة الرئيس باراك أوباما بتورط طهران في تمويل الإرهاب. وهكذا يسعى أوباما الى استراتيجية «خلاّقة»، فيضغط على المرشد و «الحرس الثوري» ليكفّرا عن الإرهاب بملاحقة «داعش»، والعشائر السنّية في العراق!

وإنصافاً للرئيس الأميركي الذي ما زالت إدارته متهمة باستكمال برنامج المحافظين الجدد والثأر لـ 11 أيلول (سبتمبر) عبر تدمير المنطقة العربية بحروب الجيوش الجوّالة وفروع «القاعدة» التي تقاتل بالأصالة، والوكالة ربما عن أجهزة استخبارات لا تُحصى… إنصافاً لأوباما، قد يجوز القول بنظرية إدارة «الذكاء الناعم»، فهو يعرف العلّة ومَنْ يموّل الإرهاب ومَنْ يرعى الإرهاب (ألم تكن إيران ولا تزال على رأس الدول الراعية له، في القوائم الأميركية). ويدرك ان الخلاص النهائي لإسرائيل لا يكون فقط بنزع الأسنان الكيماوية لنظام بشار الأسد، ولا الأسنان النووية للنظام الإيراني الذي يريد دور الراعي الإقليمي لإدارة كل منطقة الخليج والشرق الأوسط.

لذلك، ومثلما جرّ الرئيس الأميركي المتردد طهران إلى قفص المفاوضات النووية، بعد تشديد حبل العقوبات، فباتت تلهث لبلوغ الحل النهائي، ما الذي يحول دون رهانه على توريط المرشد و «الحرس الثوري» في وحول العراق ودمائه؟

قد تكون تلك أمنية لدى كثيرين في المنطقة، عاصروا بعد الخميني، عهد الوصاية الإيرانية على قضايا العرب، ونتائجه: تدمير قضية فلسطين، تدمير الوحدة الوطنية اللبنانية ومؤسسات الدولة، زرع بذور شرذمة اليمن، تحريض المعارضة البحرينية، توريط «الإخوان المسلمين» بشبهة التآمر مع طهران، مصادرة قرار بغداد، ورعاية الإبادة الجماعية في سورية.

بين الوقائع ايضاً، مجرد تساؤل عن الذين أجّجوا النار المذهبية في المنطقة، وصوّروا السنّة جميعاً إرهابيين هدفهم الانقضاض على الشيعة وتدمير أماكنهم الدينية. ولا يحتاج إلى جواب إدراك ممارسات نظام المالكي مع كل معارض له، ومع كل السنّة بعدما وصمهم في العراق بشبهة «البعث».

الأهم اليوم، أن مَنْ أراد تتويج نفسه حاكماً أبدياً مستظلاً بالمعركة ضد «الإرهاب»، يحشر نفسه في هواجس صفقة أميركية- إيرانية. واشنطن تظن ان مجرد استبداله سيحل الأزمة المستعصية ويعيد لملمة أشلاء حصص العراق، أما طهران ففي ربع الساعة الأخير لن تقايض نفوذها في بلاد الرافدين بسحر المالكي وسطوته.

والمضحك المبكي ان قادة العراق الذين اجتمعوا مع المالكي واتفقوا على نبذ اللغة «الطائفية»، يبدون كمن يحاول إنقاذ حصته في السلطة. فلا الموصل خانعة ولا تكريت مضطهدة بجريرة صدام حسين، ولا كركوك تحت السلطة المركزية للمحاصصة الغبية.

تغيّر الأكراد، اقتنصوا اللحظة التاريخية لشدة «تعاطف» المالكي مع حق تقرير مصيرهم. وإن اكتمل رسم حدود الإقليم الكردستاني في شمال العراق، ألا يحق للسنّة إقليم؟ تلك كانت مبادرة نقلها الأكراد إلى طهران، فباتت محور مفاوضات إيرانية- أميركية، ولا غرابة إن تحمّست قيادة خامنئي فظنّت أن التعاون مع واشنطن سيتمخّض عن وصاية على سنّة العراق وإقليمهم!

دون ذلك عقبات هائلة، ترجّح خيار ترك واشنطن الإيرانيين في مستنقع حرب طائفية- مذهبية لاستنزافهم. وما دامت الدماء من المنطقة، أي مشكلةٍ للغرب… تدمير سورية وقضية فلسطين ووحدة أبنائها، وعوارض المذهبية في لبنان، تعفي إسرائيل خمسين سنة من القلق على أمنها. تفتيت العراق، وإنهاء وهم الرعاية الإيرانية لأمن المنطقة ووهم مقايضة الأميركيين، يريحان الغرب وإسرائيل، حتماً لعشرات السنين.

بعد ثلاثة عقود من «الانتصارات» الإيرانية كأس فصل مرير يبدأ في بغداد، وينتهي في طهران… تنتظر مَنْ يتجرّعها.

السابق
عمالة الاطفال والاتجار بهم في لبنان: واقع كارثي
التالي
هل تؤدي أزمة العراق لصراع وجود يمحو حدود الدول؟