’داعش’ و ’الربع الخالي’

ما يجري في العراق فصل وحشي يشعر هولاكو في قبره بانه كان رؤوفا بالعراقيين عندما أحرق بغدادهم. هذا البلد نكبت فيه الرحمة من زمان، وتعمقت نكبتها بعدما أضاع بوصلة وحدته عام 2003 عندما اجتاحته القوات الاميركية واعدة شعبه باعادة توحيده بالديموقراطية، لكنها اعادت بناء خشبة مسرحه على تناحر طائفي ساهم التاريخ في تأجيج جزء منه وفرض الواقع السياسي في المنطقة الجزء الاخر. وبدل ان يكون خلاص الشيعة من الاضطهاد المزمن حافزا لتكريس المساواة بين المكونات، صار التهميش بابا دوارا تدخل منه طائفة وتخرج اخرى. تراكم السياسات الهوجاء جعل “داعش” عنوانا خاطئا لانتفاضة السنة ضد الاقصاء. وصار التقدم السريع والمريع لهذا التنظيم التكفيري مجرد تأكيد لانحدار العلاقات السنّية – الشيعية. ولن يكون “داعش” او المالكي او فتاوى التعبئة التي تصدر من هنا وهناك سوى حطب جديد في المسرح الوطني لا يلبث ان يحرق بعضه بعضاً ليشتعل من جديد في موقع آخر من الجسد العراقي الساخن.
“داعش” السني بتزمته وعصبيته ونيران حقده سيستدرج الشيعة والاكراد الى اعادة انتاج “دواعشهم” الكامنة بعدما حاولوا عبثا اكسابها صفة مؤسسات واجهزة دولة، وما الفارق بين هذا “الداعش” وذلك الذي يعبأ طائفيا ويصدر كل هذه الفتاوى العمياء للشحن العصبوي ويؤله العنف سيدا مطلقا. الشيعة اقصوا السنة عن مناطقهم في جنوب العراق، والسنة يحاولون تهميش من بقي من شيعة في الانبار ونينوى وصلاح الدين، والاكراد يبعدون العرب سنة وشيعة عن اقليمهم ويغتنمون لحظة الانقسام للانقضاض على “قدسهم” كركوك. الجميع يقتلون. الجميع يفتكون. الجميع يبتدعون فنونا في الارهاب والتخويف. الجميع معبأون بالتعصب والتزمت والجاهلية حتى النخاع . جميعهم يفتكون بما تبقى من العراق، وبمن بقي من اهل العراق. والكل يتساوى في الجريمة ووحده المواطن العراقي المسكين يدفع الثمن، ويتساوى في ذلك مع جيرانه وفي مقدمهم الجار السوري الاقرب.
تحيا الوحدة، فقد انتظرناها طويلا حتى جاءت على أيدي “الداعشيين” الجدد. هؤلاء وحدوا بالسيف والراية السوداء غرب العراق مع الرقة ودير الزور السوريتين. واولئك يقاتلون متحدين في غوطة دمشق والقلمون وحمص. تحيا الحرية التي انتظرناها مع “الربيع” لكنه لم يحمل منها سوى حرية القتل والاستباحة، حينا باسم الوطنية واحيانا باسم الدين.
انفجارات القنبلة المذهبية والكراهية المكبوتة في عراق اليوم الذي يشكل قمة هرم قاعدته قد تشمل صحراء المشرق بكل جهاتها واتجاهاتها، وعندها لن ينفع لا الندم ولا التسويات.
واذا كانت حرب المئة سنة بين الكاثوليك والبروتستانت انتجت نهضة أوروبا، فان حروب الـ 14 قرنا بين السنة والشيعة بطاقة رحيل جماعي الى “الربع الخالي”.

السابق
نصرالله: لولانا.. لوصلت «داعش» إلى بيروت
التالي
حروب التدمير الذاتي