باسم الإسلام..

 

يذبحون، يعدمون، يخطفون، يهرّبون، يسرقون، يسطون، يصلبون، يرجمون، يجلدون، يقطعون الأطراف، ينزلون بالأخلاق الإنسانية إلى الحضيض. ومن ليس “منظماً” ضمن مجموعة بينهم يكون سجينا سابقا، مرتكب جنح أو جنايات، معقَّد نفسياً، يصارع في عزلته محيطه وأهله، مثل ذئب الغابات الموحشة،  يتابع التدريب والتلقين “الديني” على الشبكة الالكترونية، وحيداً، جاهلا بأمور دينه ودنياه، مدّعيا علماً متبحّراً بهما، كارها لمن حوله، يقتل من تيسر من المرذولين المرتدين من أبناء دينه ودين غيره، مخبول، متصدّع. وهو إذا انضم إلى جماعته، يضيف هذه الأخلاق على الممارسات المنظمة لربعه؛ هو الإنسان “المسلم” الجديد، صاحب الديناميكية الوحيد من بين مواطنيه أو مجايليه أو أبناء دينه وغير دينه. قادر على تحطيم الحدود الوطنية وتهجير المجتمعات والعائلات، وبث الرعب في قلوبها وإخراجها من دوائر الثورات والحياة.

إنهم “المجاهدون” الأبرار، وهم لا يقتصرون على “داعش” أو “النصرة”، إنما يمتدون، بفصائلهم المعمدة بالأسماء الصحابية، إلى السلفيين، والإخوان المسلمين، وربما أيضا المتصوفين. وقد تواصل كل هؤلاء في ما بينهم، عبر نظام الأواني المستطرقة، حيث يتنقلون في رواق واحد، لهم ملء الحرية فيه بالإختيار بين الجهادية والوسطية والسلفية والصوفية؛ بحثاً عن قوة أو غلبة أو ثأر… وما أكثر أسباب الثأر!

كل هؤلاء هم أصحاب الدور المحوري على خشبة المأساة المشرقية، يرسمون خريطة مستقبلنا ويقررون حياتنا أو موتنا، يهددون أوطاننا بأخطر من الموت والإنقسام والتفريغ… كل هذا، باسم الإسلام.

بينما في الزاوية المعتمة من هذه الخشبة، تصدر بوجوههم أصوات خصومهم العلمانيين الليبراليين اليساريين… الذين لا يجدون، أمام هذا الزحف الجهادي غير تصدير عبارات “النقد” والتحريض اللاذعين، وإلا فالتجاهل. لا يتوقفون. كلما صدر عن هؤلاء “المجاهدين” فظاعة من تلك التي يُشهد لها، أعاد علمانيونا وليبراليونا و… نغمة كراهيتهم لذاك المزج بين الدين والدنيا؛ غير منتبهين إلى تداعي منظومتهم الفكرية وإهترائها لإنعدام مطابقتها لواقعهم وواقع مجتمعاتهم، أو إلى ضآلة تأثيرهم على هذه المجتمعات. غير خائضين في عمق الإشكالية التي تتجسد في الإستجابة الشعبية العارمة لما يروج على انه دين، دين “جهادي”، وإن إرتدى لبوس “الإعتدال” و”الوسطية”. وهم بذلك، بتكرارهم لحجج بائتة وبائخة، يتقلص دورهم وديناميكيتهم، بحيث لن يجد “الاذكياء” من بينهم إلا الإلتحاق السياسي بالجهاديين، يسمونه “تحالف من أجل الثورة”… أو محاربتهم عبر المزايدة على تدينهم. وهذه مشكلة ثقافية حقيقية، لأن غالبية من يتناولون الشأن السياسي من كتاب أو مفكرين أو محلّلين، ليسوا من الجهادية بشيء؛ وإن كان من بينهم من يصوم ويصلي. وهم، إذا لم يكونوا معبرين صراحة عن تطرف مضاد للإسلامية، يسكتون عن الفعل الجهادي، أو يهملون “فكره”، أو يرتبكون في تناوله، أو يسخفونه، أو يستمرون في هجائه بالألفاظ نفسها أو السكوت نفسه.  وهم على كامل الحق في لفظهم وارتيابهم من جاهلية الجهاديين. ولكن بمثابرتهم على ما كانوا عليه قبل القفزة الجهادية النوعية الأخيرة، يغفلون عنهم أشياء كثيرة، تخص موضوع تحليلهم وتفكيرهم. وعلى رأس هذه الأشياء، السؤال عن السبب الذي يجعل الجهاديين على هذه الدرجة من التمكّن.

طبعاً سوف ترِد أسباب بديهية، كالتمويل والتنظيم والقتالية العالية ومصدر التواطوء الخارجي، الإقليمي أو الدولي؛ ولكن هذه الأسباب الأربعة، مجتمعة ومنفردة، لا يمكنها أن تفهمنا الإقبال على “جهاديتهم”. الدعائم الأربع، التمويل والتنظيم… تجدها في حروب العصابات السابقة التي خيضت تحت راية الشيوعية، أو تحت راية اليمين المتطرف، في أنحاء لا تحصى من العالم. ولكنها، من دون “روح عصرها”، من دون أن يكون الإسلام عنوان هذا العصر، ومن دون الإنتساب المتدفّق للمسلمين على إسلام جديد، منغلق، متعصب، كاره، نصي، طقوسي، عقابي… لمَا كان للإسلاميين الجهاديين كل مواطىء القدم هذه، كل هذه القوة والإنتشار. من دون المجتمع نفسه الذي يدعمه، فكرياً، جسدياً، معنوياً…

ليس المطلوب تبنّي موقف الحزب الشيوعي السوداني، في سبعينات القرن الماضي، الذي اشتهر من بين الأحزاب الشيوعية الشقيقة، بتشجيع أعضائه على المشاركة في الطقوس الدينية من صوم وصلاة وحج… تقرّبا من الشعب المؤمن وتفهّما لثقافته وتدليساً لمشاعره؛ والذي انتهى على كل حال بشنق زعيمه، الشفيع احمد، بقرار من جعفر النميري، “الرئيس المؤمن”، بالنسخة السودانية. فهذا سلوك “براغماتي”، ولكنه لا يثمر، لا يضيف وعيا ولا معرفة ولا تقرباً. المطلوب الإهتمام بما يقف خلف التمسك بالدين، بالصيغة التي يرسو عليها الآن، وبالصيغة التاريخية التي وجد بها واستمر. بيوميات هذا التديّن، بسلوكياته، بتعميماته، بالقلق الذي يمنحه قوة الدفع، بالحدود التي يرسمها أفراده لما يرونه عالمهم. إنها ورشة فكرية هائلة، تلك المطروحة أمامنا، تبدأ بالتحرر من الأيديولوجية العلمانية الليبرالية اليسارية، بمعاملتها على أنها طريقة، منهجاً يحتاج إلى التطعيم، وليست هدفاً سامياً يستحق الموت أو التجاهل. هل نكون “فهمنا” ديناميكيات مجتمعاتنا بهذه المقاربة؟ لا شيء مؤكد في بحر المعرفة. من يعلم؟ ربما نصل إلى ما لم نكن نبحث عنه أصلاً…

 

السابق
مايكل شوماخار يستيقظ
التالي
مجلس الأمة الكويتي يزور مخيمات اللاجئين في البقاع