الدخول إلى مخيم صبرا الفلسطيني

مخيم صبر

بعد «أيلول الأسود»، يحلّ علينا نوع من الإستصغار لأنشطتنا السابقة، مثل جمع التبرعات، أو التظاهرات، أو المشاركة في المهرجانات الحماسية الطويلة، المؤيدة للفلسطينيين. يحلّ علينا وقت جديد، وحيٌ جديد، نسميه «وعياً نوعياً»، لمدى الترابط المصيري بيننا وبينهم. لبنان لم يدفع ثمن مواجهة إسرائيل، نردد لأنفسنا، وقد حان الآن موعد «ترجمة» وثْبتنا التحررية هذه بشيء «ملموس»؛ نحمل السلاح بموجبه، ونأخذ بذلك على عاتقنا ما لم تفلح به الأنظمة والجيوش النظامية في تحقيقه، وما بلغته هذه الأنظمة بالتحوّل إلى رفع السلاح ضد الفلسطينيين، أو السكوت عنه، أو التآمر ضدهم. «أيلول الأسود» ينقلنا إلى مرحلة «متقدمة» من نضالنا. المهمات الآن تتضمن التدريب على السلاح، بغية حمله ومواجهة إسرائيل به.

هكذا، أجد نفسي، وبتعليمات من الرفيق عماد، واقفة على مدخل مخيم صبرا مع الرفاق غسان وزلفا ومالك. لا أصبر على انتظار الرفيق عماد الذي سيدخلنا إليه ويرشدنا إلى «معسكرنا»، من دون الرفاق الباقين في الحلقة، أيمن ومنيرة. وفي المعسكر نفسه، لا أجد أيضا رفاقاً من الحلقة السابقة، مثل جان وسامية وعارف. أفاجأ من إنخفاض أعدادنا. ربما لأن تصوري للتدريب العسكري تصور «جماهيري»، يفترض الحشود الغفيرة المقبلة عليه، كما تقبل على التظاهرة أو المهرجان. العدد القليل من الرفاق المتحمسين لهذه المهمة يضعني أمام سؤال، يأتي ويذهب، كلما أتذكره، أعود فأنساه. ربما أحتاج إلى وجودهم لكي أبقى على الدرجة نفسها من الحماسة. ربما لا أريد أن أسمع جوابا محبطاً، يحوّل ما أنا مقبلة عليه إلى مهمة صعبة، غير مفرحة، لا أتقاسمها مع بقية الرفاق والرفيقات. هل الإلتزام بالتدريب العسكري هو تكليف حزبي ملزم؟ أم أنه «إختياري»؟ وماذا يعني أن يكون التكليف هذا «إختيارياً»؟ هل قيل للرفيق مثلاً بأن تذهب إلى التدريب العسكري أو نخرجك من الحلقة الحزبية؟ هل الأمر بهذا الوضوح؟ أم انه جُسّ نبض بعضنا، الأكثر إقداماً أو إخلاصاً أو شجاعة، فأُوحي له بأننا ذاهبون إلى التدريب كمن يذهب إلى أعلى المهمات؟ هل كان من بيننا من تدلّل أو تقاعس أو رفع أحد حاجبيه إستباقاً لأي تكليف من هذا النوع؟ ربما الأمر لا يعدو كونه خليطاً من كل هذا، طالما اننا ما زلنا في فترة «التجريب الحزبي»، والأخذ والرد بين منظمتنا والمنظمة الفلسطينية الحليفة لها، الجبهة الشعبية الديموقراطية لتحرير فلسطين.

ولكن هذا لا يثنيني عن السؤال: أين هم الرفاق الأربعة الباقون؟ سامية ومنيرة وجان وأيمن وعارف؟ الأخير اختفى… أما أيمن، فأنا متأكدة من أن مزاجه الخاص لا يتلاءم أبداً مع ما يتصوره انه يجب أن يبذل من جهد في التدريب العسكري؛ وهو تصور صحيح. أقول له ذلك عندما ألتقيه في أحد المهرجانات. يضحك طويلاً، ولا ينفي. أيمن يحب الكسل والاسترخاء. وضميره الحزبي أكل الطعم من زمان، عندما كان لا يزال في وسط أهله أبناء وبنات الحزب الشيوعي. فيما بوسعي الآن تخيل ان مثابرة أيمن على قراءة جبران خليل جبران بدل «البيان الشيوعي»، حساسيته المفرطة، رقة طبائعه… كلها أسباب وجيهة لعدم التدريب على السلاح؛ حتى لو بقيت «قناعاته السياسية»، كما يسميها، منحازة للمنظمة لا غير. أما منيرة، فلا أطيقها على كل حال. تأتي إلى الإجتماع حاملة معها مسْطرة ناظرة المدرسة. هذا صح وهذا غلط. من أين لها كل هذا النبوغ المبكر؟ وعلى ماذا الصحّ والغلط؟ ليس حول شأن سياسي، أو حزبي، إنما على تفاصيل السلوك الشخصي: لماذا أنتَ جالس هكذا؟ استقم! على ماذا تتوترون؟ فنتوتر. لماذا تتلفظون بألفاظ نابية؟ أهكذا يتخاطب الناس؟ هنا يجب الإعتراف بأن قلة التهذيب من سمات حماستنا السياسية. اعتقاد يسود بيننا بأن الألفاظ النابية هذه حق لنا، طالما لم نحقق أهدافنا الثورية. والرفيقة منيرة مصيبةٌ في هذه النقطة. ولكنها لا تنتبه، هي أيضاً، ان توترها المهذب يشبه قلة تهذيبنا؛ انه حجة ثوريتها. لذلك يفاجئني غيابها عن معْمعة التدريب العسكري. فيما لسامية سبب غامض، لن يبدّده توثّق علاقتنا في المقبل من الأيام؛ خصوصاً انها سوف تبادر لاحقاً إلى خطوات جذرية ثورية في تعاملها مع شأن نضالي آخر. ما ينسيني تقاعسها عن التدريب العسكري. أخيراً، الرفيق جان، آه منه! غرامياته مع من يسميها «سيدة القصر» تمر الآن بطور من الجنون؛ لا يتركها إلا للمهمات التي لا يمكن تفاديها. قصته التي اخترعها في أول اجتماع لنا، كانت تركيباً، لم تدم أكثر من إجتماعين؛ «سيدة القصر» التي قال إنه تقصّد التعرف عليها لأغراض طبقية، خطفت قلبه وأغرقته في فنون العشق والشوق.

إذن نحن الآن واقفون على باب المخيم، بانتظار الرفيق عماد، وكلنا نرتدي، حسب التعليمات، أحذية رياضية وبنطلونات وقمصاناً خفيفة. ومن أجل المزيد من الراحة، أقصّ شعري قصيراً جداً، مثل الصبيان، «ألا غارسون»، كما هو دارج. لا يتأخر الرفيق عماد على الموعد، وبإشارة منه نلحقه، نمشي وراءه داخلين مخيم صبرا: شيء ما في داخلي يتحرّك بقوة، شيء أنا مهيأة له، لكثرة ما تخيلت عن الفلسطينيين، لكثرة ما بكيت وغضبت وصممت وتوجست، لضخامة ما خزنته من صور عنهم، وألحان؛ قنابل النابالم في حزيران 1967 على أجساد أطفالهم، صور نكبتهم وطردهم من بلادهم، ونغمة فيروز «الإيدين (الأيادي) السودا خلعت البواب وصارت البيوت بلا أصحاب»، تطنّ في أذني.. الجماهير الفلسطينية الحقيقية، ها هي أمامي، وها هو مخيمها، ها هي مأساتها، مكدّسة، مقهورة، شقيّة؛ ولكن في سحنتهم كبرياء وذكاء. هم استعادوا كرامتهم، بعدما داستها قوى الأمن اللبنانية ورجالات المخابرات، «المكتب الثاني». شيء يفاجئني: أزقة المخيم ضيقة، مكتظة، قليلة الحيلة؛ ولكنها بنظافة الرخام. رائحة الصابون العربي «البرش»، تنضح من بيوته المتراصة؛ من نظافة نساء زمان اللواتي لا يقتنعن إلا بالشطف، إلا بالمياه تغمر كل الغرف، فتجرف معها الأوساخ الصغيرة المختبئة في الزوايا، ومعها الخطايا اليومية. نظافة ثياب لا تقتنع إلا بغليّها، ومعها قطعة «النيلي»، ذاك الصابون الكحْلي الذي يعطي للأبيض لمعة زرقاء. النساء منْكبات على التنظيف الجذري، والرجال واثقون من الغد، والجميع منهمك بما تيسر له من مهام وسط الفصائل المتنوعة. أحب نظافة المخيم، من حبي لأهله، أيضاً؛ أتنشّق رائحة الصابون العربي «البرش» كمن يأخذ نفساً ثورياً عميقاً، كمن يتوسل شجاعة على شجاعة… فتصيبني القشعريرة.

نصل إلى «معسكرنا» الواقع على الجهة الجنوبية القصوى من المخيم. وهو عبارة عن أرض واسعة، مربعة ومسوَّرة بحيطان هشّة، تقع في أحد زواياه غرفة صغيرة، وأخرى أكبر منها. واحدة هي عيادة شعبية مجانية، سوف أشارك لاحقاً في نشاطها، أنا والرفيقة زلفا. والثانية هي عملياً للإستراحة والتدريب على السلاح.

ولكننا لسنا لوحدنا. هناك رفاق من حلقات أو خلايا أخرى، نعرف وجوه بعضهم. وسريعاً ما نتآلف. «يسلمنا» الرفيق عماد إلى رفيق قاسي الملامح، عيونه سوداء غامقة، من نار، وجسمه رمح، مثل سيف سلطان، يرتدي بدْلة عسكرية كاكية اللون، اسمه الرفيق النبيل. هو الذي سيتولى تدريبنا، «قائد» تدريبنا. أكره الرفيق نبيل من أول نظرة. فظاظة ما يتصوره عن سلطته، صراحته في التعبير المكرّر، مثل التمرين، عن هذه السلطة، لغته الإقتحامية، غير المزيّنة بأي خديعة أو تلاعب أو معسول من الكلام… ثقيل عليّ كل هذا. أتحمّله الرفيق نبيل، أتكبّده… إلتزاماً مني بالمهمة الموكلة إليّ. ولكنه يبقى في داخلي، مثل كشاف عن شيء في طبائعي، لا أدركه إلا بعد حين: هو، الرفيق نبيل، يعلمني عن نفسي شيئاً، عن نفوري الصميمي من أي سلطة، حتى سلطة الرفاق القياديين، من دون تمييز بين الصالح والطالح منهم، لو وُجد الأول بينهم. وأعيش هذا الوعي بنوع من تأنيب الضمير؛ إذ كيف يصحّ أن أسلّم بمن هم الأقل ثورية من بيننا، على ما أحدس؟ سؤال أدفنه جيداً، تطغى عليه الآن الإندفاعة الثورية، التي هي بقوة الأعاصير.

السابق
السلطات العراقية تعلن مقتل 279 مسلحاً خلال 24 ساعة
التالي
بو صعب ناشد من جزين المعنيين اقرار السلسلة