«داعش»… أو طالبان بر الشام على أبواب بغداد

حازم الامين

لا يكفي القول إن العراق دولة فاشلة لنفسر الانهيار السريع لجيشه في الموصل وغيرها من مناطق شمال العراق وغربه. نعم، هو دولة فاشلة، لا بل إنه سجل سبقاً تاريخياً على هذا المستوى.

هناك واقعة مذهلة تفوق في رمزيتها هزيمة عشرات الآلاف من جنود الجيش وقادته أمام مئات من مقاتلي «داعش» وغيرهم من المجموعات المتشددة في الموصل، واقعة كاشفة لمستوى الاهتراء السياسي والإداري. إنها قرار سلطات الطيران المدني في مطار بغداد منع طائرة مدنية لبنانية من الهبوط لأنها لم تنتظر قبل اقلاعها نجل وزير النقل هادي العامري الذي تأخر عن موعد إقلاعها. الوزير القريب من رئيس الحكومة نوري المالكي بقي في منصبه على رغم أن الخبر أذهل العالم لفرادته. بقي بعدها الوزير وزيراً ورئيسه مرشحاً لولاية ثالثة.

الاهتراء والفساد قناتان رئيستان لطالما وظفتهما «القاعدة» في نشاطها. باكستان نموذج سبق العراق على هذا الصعيد، واليمن أيضاً. لكنهما ليسا شرطين كافيين لفعالية الاختراق. ثمة شرط ثالث، أمّنه المالكي في العراق، هو الانقسام الطائفي. فما رشح حتى الآن من الموصل هو أن «داعش» لم تكن لتصل إلى المدينة ولم تتسلم مفاتيحها لولا أن المالكي وجيشه كانا غريبين عن أهلها، وكان ثمة شعور سائد بأنهما أقرب إلى قوة احتلال منهما إلى رئيس وجيش وطني. صحيح أن المصلاويين لم يرحبوا بالقادمين، لا بل أشّر النزوح الكثيف الذي ترافق مع دخول «داعش» إلى أن هلعاً أصابهم، لكن الصحيح أيضاً أن القادة والجنود لم يطلقوا رصاصة واحدة في وجه القوة الجديدة المحتلة، ولم يشعروا بأن الموصل مدينتهم، وأن القضية تستحق معركة وتضحية. قالوا لـ «داعش»: هذه مفاتيح المدينة، وغادروا. قالوا لها هذه مدينتك وليست مدينتنا.

مَنْ كان في الموصل قبل دخول «داعش» إليها لم يكن جيشاً عراقياً. كان جيش المالكي. هذا الوصف دقيق وعلمي، وليس تقريبياً وتشبيهياً. الجيش كان يشعر بهذه الحقيقة، والسكان أيضاً. كانت الطائفية الشرط السياسي لبقاء المالكي في الحكم، واستكمل هذا الشرط بالفساد. والرجل كان يعرف أنه لن يحاسب طالما أنه ممسك بزمام الشرطين في بلد متنازع. نتائج الانتخابات النيابية تكشف على نحو مخيف هذه الحقيقة. ذاك أن أحداً لم يدفع فيها ثمن الفشل، لا بل إن الفاشلين، وهو على رأسهم، هم مَنْ أحرز النسب الأعلى من المقاعد.

لكن للفشل وللطائفية في العراق وظائف تتعدى حماية المواقع. لهذا الفشل وظيفة إقليمية أيضاً. فالحاجة الإيرانية لعراق فاشل تقتضي مد الفشل بأسباب البقاء. في لبنان كان الفساد أيضاً شرطاً لاستمرار نفوذ النظام السوري، وأينما حل الفساد حلت معه إمكانية الاختراق. والعراق المخترق في جنوبه ووسطه من ايران وفي شماله وغربه من «داعش» ما كان ليبلغ هذا المستوى من الاهتراء لولا ذلك.

صار صعباً اليوم أن نحدد من يقف وراء هذا الانهيار. فالعوامل متداخلة بحيث يصعب فرز الوقائع. ايران مستفيدة من دون شك من دولة «داعشية» تخترق الأنبار وتصل الى بر الشام، فهذه الولاية تجعل النفوذ الإيراني في محيطها وحولها حاجة أكيدة، وهذا أكثر ما يمكن أن تتمناه لعدوك. الوقائع غير المُفسَّرة حول ما جرى لا يمكن أن تكون بمنأى عن هذه الحقيقة. عشرات الآلاف من قادة وعناصر الجيش الذي يقوده المالكي، حليف ايران الأول في العراق والمنطقة، ينسحبون أمام مئات من مقاتلي «داعش»! ألا يدفع ذلك للتساؤل عن المصلحة الإيرانية من وراء هذه التراجيديا، المصلحة الممتدة من الشام وبيروت وصولاً إلى بغداد؟

ويمكن والحال هذه الذهاب في هذه الفكرة إلى أقصاها مع قليل من المبالغة، فإيران التي اخترعت «داعش»، وقالت للسنة هذا هو حزبكم، أفرحتها السهولة التي قبل بها خصومها حزباً اختارته لهم. هناك الآن قوتان وحيدتان في المنطقة. هناك ايران و»داعش»، ولا شيء غيرهما أو بينهما. في سورية تصح هذه المعادلة الى حد بعيد، وفي العراق هي حقيقة لم تعد قابلة للدحض.

ثمة ما هو غير قابل للفهم هنا. من هي «داعش»؟، المصلاويون غادروا مدينتهم حين قدمت، ولا عمق إقليمياً لها. هي اليوم أغنى تنظيم ارهابي في العالم، بعدما استولت على ودائع المصرف المركزي في الموصل. وهي اليوم أكثر تسليحاً بعدما ترك لها جيش المالكي عتاده الحديث في المدينة. تنظيم على هذا المقدار من التمويل والتسليح والتصميم، لا يُعرف له أب أو أم. لا بيئة محددة له، ومقاتلوه غرباء في البيئة التي يقاتلون فيها، وقائده لم يُعرف له صوت أو صورة أو هوية. «طالبان» لم تكن كذلك على الإطلاق. «طالبان» كانت البشتون كلهم، وكان ثمة صورة للملا عمر، وكان للأخير ذات يوم مقر وضيوف ونساء، وكانت وراءه باكستان.

لا توصيف اجتماعياً وسياسياً لـ «داعش» سوى أن ضباطاً سابقين في الجيش العراقي يتولون قيادتها العــسكرية. هي ابنة الفراغ الكبير الذي خلفه انكفاء الأميركيين والعرب عن العراق، وهي ابنة الرغبة الإيرانية في عدو قبيح. وأن تربي عدواً، فهذه خبرة ربما كانت فريدة من نوعها، ذاك أن المخابرات الباكستانية (آي أس آي) حين تولت تنشئة «طالبان» في المدارس الدينية في بيشاور ووزيرستان كانت بصدد تربية حليف، لا عدو. التجربة هنا مختلفة، لكنها لا تقل وضوحاً. انهزم جيش يفوق عدد أفراده الخمسين ألفاً أمام مئات من المقاتلين، وفُتحت للأعداء خزنة المصرف المركزي، وتُركت لهم معدات قتالية حديثة! المهمة كانت أسهل من مهمة الـ «آي أس آي»، حين تولت تنشئة «طالبان»، فالأمر في حينه تطلّب مدارس وأساتذة ومعسكرات تدريب.

الأرجح أن مهمة استعادة الموصل من «داعش» لن تكون مستحيلة. لكن هذا التنظيم بعد هذه المعركة لن يكون كما كان قبلها. في حوزته الآن موازنة لسنوات طويلة، وأسلحة متطورة، والأهم أن «نصره» في الموصل وديالى والأنبار سيتحول عنصر جذب كبير لكثيرين من شذاذ الآفاق ولغيرهم من المحبطين الباحثين عن نصر يُداوون به هزائمهم الخاصة والعامة.

«داعش» حقيقتنا المشرقية الجديدة.

السابق
حرب: حزب الله يساهم في تعطيل انتخابات الرئاسة
التالي
فرنجية: أشك بأن يؤدي لقاء عون وجعجع لنتيجة بالنسبة للرئاسة