أرض السواد ..

أياً كانت الجهات الخارجية التي ساهمت في تكوين حركة «داعش» أو أعطتها اليوم إشارة الانطلاق لاجتياح جزء مهم من جغرافية العراق أو سوريا، فهذه الحركات أو سواها لا تتشكّل فقط بقرار ولا تعمل في فراغ. محنة العراق عمرها عقود، ولا سيما تداعيات الاحتلال في العقد الأخير الذي بدأ بحل الجيش وخطة «اجتثاث البعث» وإدارة مشروع سياسي للغلبة بأدوات متخلّفة وعنيفة وتدخلات خارجية مباشرة.
تدمير العراق دولة وكياناً ومكوّنات بشرية ومادية كان مهمة معلنة لقوات الاحتلال، وتركه نهباً لجهات الخارج الإقليمية وللحركات الطائفية المسلحة. المسؤوليات معروفة من نظام صدام حسين إلى أنظمة الخليج العربي التي شاركت في احتلال العراق، إلى إيران التي تواطأت مع إدارة الاحتلال، إلى الأميركي الذي دمّر ونهب وأشاع الفوضى المنظمة.
لم يسقط نظام العراق ومن بعد دولة العراق بسبب «ثورة ملتبسة» بل باحتلال خارجي مباشر. ومع ذلك اصطف النظام العربي المتهالك والمتهاوي وكل عدته وأدواته لمباركة هذا الحدث التاريخي، ولم تتبصر الحركات السياسية والأحزاب والنخب الثقافية أبعاد هذا الحدث. على مدى عشر سنوات وقبلها كذلك ظلت المأساة العراقية «مسكوتاً عنها» وتحيط بها الأفكار والمواقف الغامضة. حتى الذين يتحدثون عن «تحرير العراق» من الاحتلال الأميركي، أو يزعمون هزيمة المشروع الأميركي انطلاقاً من العراق لا يتفوّهون بكلمة واحدة عن طبقة هذا التحرير وقواه وأطرافه وأبطاله ونتائجه.
لقد تمّ عزل العراق ذهنياً عن مدار السياسة العربية ولم يعد أحد يفكّر فيه وفي قضاياه ومشكلاته وجرى التسليم بأمر واقع قسم العراق بين عرب وكرد وسنة وشيعة وبين حركات طائفية مسلحة عبثت بمنجزاته التاريخية ومكوّناته الإنسانية والحضارية وجعلت منه ساحة لغنائم دول الجوار ولتجارب نماذج من حركات الإسلام السياسي غارقة في المصالح الطائفية وفي التبعية للخارج.
عندما انفجرت الأزمة السورية كنا أمام مشهد لديه الكثير من المشتركات مع النموذج العراقي. وكنا فعلاً أمام القوى الفاعلة في الداخل والخارج نفسها وأمام المسؤوليات وتوزعها نفسهما. وأعادت كل الأطراف التجربة من خلال سياسات «انتهازية» أو استثمارات وتعهدات ومقاولات على حساب الدولة والكيان والشعب وصارت الحروب الأهلية والمجازر والتدمير المنهجي والتدخلات الخارجية ثقافة «تحريرية» جديدة ولو كانت جميعها تصب في خانة «الاحتلال الفعلي لسوريا» بأشكال جديدة من الاحتلال. صحيح أن «المعارضة السورية» لم تكن على مستوى التحديات ولا على مستوى حركة تغيير سياسي لا ثوري ولا إصلاحي، لكنها كانت بنت الواقع السوري الداخلي قبل أن تلحق بالخارج ويلتحق بها ويجري إغراقها بجحافل المسلحين ممن بات يُعرف «بالمشروع الإسلامي العالمي» الوثيق الارتباط بمراكز قرار دولية. وفي كل مكان كانت الفوضى المسلحة، أو العنف المسلح الذي يبادر إليه النظام من دون القدرة على الحسم وإعادة السيطرة هو المدخل الطبيعي لانهيار الحدود الخارجية واندلاع أو استقطاب كل ظاهرات «الحركات المتشددة» أو «الإرهابية».
ما يجري الآن في بلاد الشام والعراق ليس ظاهرة من الخوارق والمعجزات بل هو ابن تاريخ قريب معيش على مدى سنوات من سياسات «الفطش والبطش» وسوء الرؤية والتقدير وخطأ الممارسة الذي طبع الفعل العربي بكل أطيافه وأطرافه. لقد تم إغراق الساحات العربية بطوفان من العشوائية ومن الاستدراج والتلقائية بعيداً عن أي تفكير عقلاني أو تقدير سياسي لا ينطلق من أولوية العنف في النظر إلى المشكلات وحلولها. وتحكم في سلوك العرب، كل العرب، وكل الحركات ذات الجذر القبلي والعصبوي والتحزبي والمخزون الإيديولوجي الديني أو المدني الذي أصاب بالتعمية كل من شارك في هذا الانهيار الكبير وهذا الركام وهذا الغبار والدم.
هل فات زمن المراجعة والتفكير والحساب أمام خرائط جغرافية وسياسية ترسم خارج منطق التاريخ وخارج تطلعات الشعوب وتراثها ومكتسباتها؟ أم أن هذه اللحظة التي تنتشر فيها النيران تدعو أصحاب الشأن والحل والربط أن يعالجوا ما بقي من أرض غير محروقة ومن بينها لبنان إذا كان لهؤلاء اعتراف بأنه شأن مستقل لوجود إنساني حر؟

السابق
إيران لن تتساهل مع نار تحت أقدامها والدومينو المذهبي يتمدّد
التالي
مَن سيدفع ثمن إيقاظ المارد؟