التحدّي المفاجئ: كيف ستواجه طهران هذا الاهتزاز مع حلفائها وفي الداخل؟

المشهد العراقي مُلتبس حيال حقيقة ما جرى ويجري في المحافظات السنّية التي سلّم الجيش النظامي المتواجد فيها مواقعه وعتادته وفرّ قادته وضباطه وعناصره من دون أي مواجهة، في ضربة سياسية وأمنية قاصمة لرئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي، والطامح  إلى رئاسة مجلس الوزراء في ولاية ثالثة، والذي لم يجد سبيلاً للخروج من مأزقه إلا بالدعوة إلى تشكيل جيش رديف من المتطوعين هو بالنهاية عبارة عن ميليشيات مسلحة، بعد مليارات من الدولارات صُرفت على القوى المسلحة النظامية من جيش وشرطة ومخابرات بعديد فاق المليون، وبعد استئثار كامل له بالحقائب الأمنية في البلاد، والذي شكّل لسنوات تقاطعاً أميركياً – إيرانياً، وأخفق في العملية السياسية، ما أَلّب عليه حلفاءه من بيئته السياسية والمذهبية، قبل خصومه من البيئات الأخرى.

 
ويأتي جزم السلطات العراقية بأن المحافظات التي أضحت خارج سيطرة حكومة المالكي قد وقعت في يد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، المعروفة بـ «داعش» والمصنفة تنظيماً إرهابياً، وتبنّي الولايات المتحدة ودول إقليمية ودولية هذه المعطيات، ليزيد المشهد التباساً وغموضاً، في ضوء مواقف مفتي الديار العراقية الشيخ رافع الرفاعي من الحراك العراقي. فمن الصعوبة بمكان أن يكون مفتي الديار العراقية داعشي الانتماء والفكر والاتجاه مباركاً نهج الإرهاب. فالشيخ الرفاعي أطل من على محطات عراقية محلية  ليعلن إن ما يجري  هو «ثورة شعبية، وإن الثوار، الذين يُسطرون أروع ملاحم البطولة في معركة الشرف والكرامة هم من أبناء العراق  وأبناء العشائر وجلدتهم من إسلاميين وقوميين ووطنيين، وهم قرة عين كل عراقي غيور وتاج على رأس من صح انتماؤه إلى هذه التربة الطاهرة ولا يبغون إلا رفع الظلم والحيف وتحرير المدن من براثن الشر، وليس تصوريهم واتهامهم بانتمائهم إلى تنظيمات إرهابية كـ «داعش» وغيرهم إلا بهدف الإيقاع بينهم وبين أبناء المدن التي يحررونها من جيش المالكي وميليشياته».

 
ولا يُشكل كلام المفتي موقفاً عابراً أو ظرفياً بحكم التحولات الطارئة على الأرض، بل يأخذ على عاتقه من محافظة أربيل تأمين الغطاء الشرعي والسياسي والاجتماعي لـ «الثوار»، ويعمل على نصحهم وتوجيههم بأن يحافظوا على الروح الإنسانية التي يتعاملون بها مع الناس ويشيعوا السلام بينهم، ويجعلوهم سنداً لهم  ويحافظوا على الممتلكات العامة والخاصة، كما فعلوا في نينوى حيث قدّموا من خلال ذلك المنهج القويم الذي سيسلكونه في تحرير كل مدينة من مدن العراق». لا بل ذهب إلى الدعوة  لتشكيل لجنة أمنية متكاملة لغرض حماية مرقد الإمامين العسكريين في سامراء، أحد المقدسات الدينية للشيعة، خوفاً من أن يُكرّر «الطائفيون من الميليشات التابعة لإيران وغيرهم  تفخيخ الحضرة العسكرية كما فعلتها إيران من قبل» ما أجج حرباً مذهبية لا تزال تترك ندوبها في الجسم العراقي.

 
وتؤشر التطورات على الأرض، معطوفة على غطاء المرجعية الدينية السنية، أن التهميش السياسي لقوى الاعتدال السنية والحلول الأمنية التي اعتمدها المالكي حيال المحافظات السنية من منطلق ثأري – استئثاري قد آل إلى نشوء بيئة حاضنة لحراك مسلح تنامى على وقع حالات القهر الذي عاشته تلك المناطق، واستفاد من انفلات الأوضاع الأمنية على وقع الأزمة السورية، حيث شرّع المالكي حدود بلاده  لمرور السلاح والميليشيات الشيعية دعماً لرأس النظام السوري، وساهم في إنعاش التنظيمات السنية المتطرفة وتوظيفها في خدمة عودة شبح الإرهاب والرهان على استثماره سياسياً من باب قدرته على مكافحة هذا الإرهاب.

 
ورغم أن الأيام والأسابيع المقبلة قد تؤول إلى انقشاع في الرؤية، يفضي بدوره إلى بلورة طبيعة القوى التي أحكمت السيطرة على نينوى وصلاح الدين وتكريت، وقبلها الأنبار والفلوجة، وتخوض معارك على مشارف سامراء وعازمة على استكمال تقدمها باتجاه بغداد، ويرسم تالياً خطاً بيانياً للعلاقة بين «داعش» والمجموعات العراقية المنتفضة على حكم المالكي، فإنه بات من الصعب إعادة عقارب الساعة إلى ما وراء العاشر من حزيران الذي أعاد خلط الأوراق في موازين القوى العراقية ستنعكس تأثيراتها على اللاعبين الداخليين وفي مقدمهم المالكي نفسه، كما على اللاعبين الإقليميين والدوليين  ليس في بلاد الرافدين فحسب، بل في المنطقة بأسرها، لما سيترك التحوّل في المشهد العراقي من تداعيات على الإقليم لن تنتهي عند حدود التداخل بين العراق وسوريا وانعكاسات ما يجري على الأزمة السورية، إنما سيتخطاها ليطال نفوذ دول الجوار العراقي إن لم يكن أمنها الداخلي. وقد بدا واضحاً، من خلال تصريحات المسؤولين الإيرانيين والإجراءات الأمنية والعسكرية التي اتخذت بإغلاق حدودها ونشر قواتها في محافظة كردستان الإيرانية على طول الشريط الحدودي مع العراق بطول مائتين وعشرين كيلومتراً ومنع الإيرانيين من السفر إليه، مستوى القلق من تطورات الأحداث العراقية، في ظل الأنباء الواردة عن مرابطة التنظيمات المسلحة على مسافة مئة وثمانين كيلومتراً من الحدود الإيرانية – العراقية، وتهديد زعيم تنظيم «داعش» أبو بكر البغدادي بنقل المعركة إلى إيران بعد العراق وسوريا.

 
وفي رأي مراقبين، أن السقوط المدوّي للآلة العسكرية النظامية الواقعة تحت إمرة المالكي بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة، وتهاوي هيبة الحكم الحليف لطهران واهتزاز العلاقة بين المكونات الشيعية، إلى التحديات من انزلاق البلاد نحو حرب مذهبية طاحنة، سيُشكل عامل استنزاف جديد لإيران في العراق بعد سوريا التي دعمتها بالسلاح والمال والخبراء الإيرانيين وأذرعها العسكرية من الميليشيات العراقية واللبنانية، وسيكون عليها أن ترفد حلفاءها العراقيين، بما لديها من إمكانات، لمنع انهيار المنظومة  التي عملت على بنائها في بلاد الرافدين بعد الغزو الأميركي وسقوط نظام صدام حسين، العدو اللدود لنظام طهران، وهو تحدّ من شأنه أن ينعكس على قدراتها في مدّ حلفاءها من سوريا إلى اليمن وربما لبنان، فضلاً عن ترددات هذا التحدّي في الداخل الإيراني.

السابق
إيران في زمن الاتّفاق مع الغرب
التالي
رجل أعمال يلجأ للحمير لتشغيل سيارته الجاكوار