سوريا.. دولة فاشلة؟

«قلت لنفسي: ما الذي أتى بك من الجزائر إلى هنا؟ لمقابلة الناس الطيبين في لبنان؟ الناس الطيبون في لبنان لا مشكلة لديهم. أنت أتيت لتقابل الذين حملوا السلاح». (الأخضر الابراهيمي – عن وثائقي «حرب لبنان»)

لم تكن المهمة سهلةً تلك التي كلف بها مندوب الجامعة العربية الأخضر الابراهيمي أواخر الحرب الأهلية اللبنانية العام 1989. كان عليه أن يجمع مقاتلي الحرب ويقنعهم بالجلوس إلى طاولة واحدة. لم يوفق بضم كل الأطراف، لكن النتيجة كانت إبرام «اتفاق الطائف» وإنهاء الحرب الأهلية بحضور غالبيتهم، والأهم من ذلك، بتوافق دولي على حل النزاع.
يُحذِّر الابراهيمي اليوم، بعد أسابيع من استقالته من مهمته كمبعوث للأمم المتحدة في سوريا، من تحول الأخيرة إلى «دولة فاشلة» على غرار الصومال. والوصول إلى هذه المرحلة يترتب عن فشل الدولة في القيام بمسؤولياتها السيادية، كفقدانها السيطرة على أجزاء من أراضيها، وعدم احتكارها للاستخدام الشرعي للعنف (وفق التعريف التقليدي الذي أرساه ماكس فيبير، وهو تعريف إشكالي خصوصاً في ما يتعلق بمفهوم «الشرعية»)، وعجزها عن تقديم الخدمات المدنية، وعدم قدرتها على التفاعل مع دول أخرى في إطار المنظومة الدولية القائمة (أي «المجتمع الدولي»).
وقد توقع الابراهيمي أن تدار سوريا، إذا ما استمر الوضع فيها على حاله، من قبل «زعماء ميليشيات» ينتشرون في طول البلاد وعرضها. والتقدير هذا يأخذ في الحسبان عجز السلطة المركزية عن فرض سيطرتها على أنحاء البلاد كافة، وعن إعادة صياغة علاقتها بالخارجين عنها بسبب خلل يعتري شرعيتها. تضاف إلى هذه العوامل رغبة قوى إقليمية بتحصيل مقابل سياسي واضح نظير قطع عونها عن التشكيلات المقاتلة الحليفة (أو التابعة) لها، أو حث هذه الأخيرة على الانخراط في عملية التسوية، علماً أن هامش اللعب على الوقت لم يعد مريحاً كما كان عليه في السابق، خصوصاً مع استفحال أزمة المقاتلين الأجانب وتشكيلها خطراً كامناً بدأت ارتداداته تظهر مع عودة بعضهم إلى الغرب وتنفيذه عمليات عنف، كعملية بروكسل قبل أشهر.
لم يعد الابراهيمي وسيطاً بين المتقاتلين الذين حمّل كلَّ طرف منهم مسؤوليات كبرى عما آلت إليه الأمور، مثلما حملوه بدورهم في السابق مسؤوليات معنوية مقابلة. وقد أصبح أمر الدولة حيث لا سلطة لها اليوم، بيد أمراء الحرب الذين يملكون عنصري السلاح والمال.
ومهمة الابراهيمي لم تفلح في الوصول إلى نتائج ملموسة لأن دوره، على أهميته، كان شكلياً، فيما الوساطات الكبرى الخاصة بعموم القضية، تجري بين عواصم الإقليم والعالم، إذ إن كلاً من أطراف النزاع السوري كان، على مدى السنوات الماضية، يركن إلى قوة تمثيلية تسمح له بالاستمرار وتعين حلفاءه في الخارج على الاستقواء به وإطالة أمد التفاوض.
وقد كانت مهمة الابراهيمي أشبه بكيس ملاكمة يستعرض كل طرف قدراته عبر حطه من أمرها. وبرز هذا الامر تحديداً في تعامل المعارضة معها حين ظنت أن دمشق ساقطة لا محالة أواخر العام 2012 وأوائل العام 2013، ففضلت الركون إلى أوهام الحسم العسكري ودفن الحل السياسي تحت هذه الأوهام. فقال رئيس المجلس الوطني جورج صبرا إن مهمة الوسيط الدولي «مضيعة لوقت السوريين» (كانون الثاني 2013)، وسبقه المتحدث باسم «الائتلاف» منذر باخوس بتأكيده أن «زمن التسويات السياسية قد مضى» (كانون الأول 2012)، بينما أكد زميله القيادي في «الائتلاف» هيثم المالح أن «زيارات الابراهيمي إلى دمشق تطيل عمر النظام» وأن «ما يحصل في سوريا ليس أزمة حتى تحل سياسياً» (كانون الأول 2012). أما النظام من ناحيته، فقد تغير أسلوب تعامله مع الابراهيمي ومهمته بحسب الظروف الدولية والأوضاع العسكرية التي تمر بها البلاد، فتراوح بين ترحيب وصمت وتسويف واتهام له «بمحاولة إعطاء شرعية للإرهاب».
وتقف سوريا اليوم على أعتاب «الدولة الفاشلة» بعد أكثر من ثلاثة أعوام على شرارة درعا، حيث تتوزعها دولة مركزية تتحكم بالعاصمة ومعظم المدن الكبرى، وتحدها عند الاطراف دويلات تفصل بينها حدود وهمية وتتحكم بها سلطات أمر واقع. وتشمل هذه السلطات تنظيم «داعش» في الرقة وجزء من الحسكة ودير الزور، والقوى الكردية في الحسكة وبعض مناطق الشمال الأخرى المتاخمة لتركيا، وتحالف «النصرة» مع «الجبهة الإسلامية» وبقايا «الجيش الحر» ومجموعات إسلامية مستقلة في أرياف درعا جنوباً ودير الزور شرقاً وحلب وإدلب واللاذقية شمالاً.
وقد بدت الأمور ذاهبة في الاتجاه الراهن بعد اكتمال عسكرة الحراك السوري وتحول البلاد إلى مساحة لتصفية الحسابات بين قوى إقليمية ودولية، علماً أن البعض أصر على القول إن طول الأزمة هو ما سمح لها بالتمدد على هذه الشاكلة، فسوّق هؤلاء لنظرية مفادها أن عدم توجيه ضربة خارجية للنظام مهد الطريق إلى الفوضى، برغم أن المثال الليبي ـ وهو الأقل تعقيداً بما لا يقاس من نظيره السوري ـ يدحض هذا التبسيط يومياً، إذ إن إجهاز الخارج على النظام القبلي الحاكم في طرابلس لم يكن بأي حال من الأحوال وصفة تمنع تحوّل «الجماهيرية» إلى مساحة من الفوضى، ولا إلى اكتمال ملامح «الدولة الفاشلة» فيها.
على أن السؤال الرئيسي هنا يتمحور حول احتمالات تحول سوريا إلى «دولة فاشلة». والإجابة ترتبط بمسألتين: أولاهما الغطاء الخارجي لإنهاء الأزمة، وهو الغطاء الذي أخرج لبنان سابقاً من «فشل دولته» (أقله بالمعيار العلمي) يوم كان الابراهيمي وسيطاً فيه. فيما ثاني المسألتين تتصل بربط المعارك على الأرض بتسويات موضعية، وهو ما يحصل راهناً. ويمكن القول إنه بقدر ما يرتبط تأمين الغطاء الدولي بالخوف من تنامي ظواهر الإرهاب، فإن التسويات الموضعية لا يمكن أن تدوم من دون إعادة النظر بجملة من القضايا السياسية والحقوقية الشارطة لأي استقرار طويل الأمد.

السابق
حكم بسجن علاء عبد الفتاح 15 عاماً
التالي
«ثورة» جديدة