ما الذي يمنع الدولة من إيصال المياه؟

نشهد هذه الأيام ترويجاً مكثفاً للقطاع الخاص وشراكته في المشاريع الإنمائية، خصوصاً تلك المرتبطة بالموارد المائية في البلاد. تركّز هذه الحملة على أن شراكة القطاع الخاص ستؤمن الكفاءة والخدمات بأفضل الوسائل.

يحصل كل هذا الترويج على حساب الدور الحيوي الذي يجب أن تلعبه الدولة ومؤسساتها العامة في إعادة تنظيم الاقتصاد وخلق الفرص للنمو المستدام في البلاد. وكما هو معلوم فان التطوّر الاقتصادي مرتبط بالتحوّلات الاجتماعية، وهو ليس فقط موضوعا تقنياً بحتاً، يعنى به الخبراء الاقتصاديون، إنما وجب على الدولة أن تعمل على توزيع الأعباء والمنفعة من هذه التدابير بصورة عادلة متلائمة مع القضايا الاجتماعية في البلاد.

حق الإنسان

لعل المبدأ الأساسي الذي يجب التركيز عليه في موضوع المياه، هو إعلان الأمم المتحدة عام 2010 «حق الإنسان بمياه نظيفة وخدمات الصرف الصحي». هذا الأمر يجب أن يلزم الحكومات بتزويد المياه وخدمات الصرف الصحي للمواطنين بأفضل كمية ونوعية، وبأقل كلفة ممكنة. وهنا في لبنان وجب علينا إطلاق «مبادرة المواطنين اللبنانيين» لترويج هذا الإعلان الأممي والتصدي لخصخصة هذا القطاع الحيوي للإنسان.

تراجع الخصخصة عالميا

شهدنا مؤخرا تراجعا ملموسا في خصخصة المياه في الدول الأوروبية منها على سبيل المثال في هولندا حيث أصدرت الحكومة قانونا عام 2004 يحرم أي جهة غير مؤسسات القطاع العام التداول في إدارة خدمات الموارد المائية.
وفي فرنسا، موطن أكبر شركات عابرة للحدود ترعى قطاع المياه، شهدنا عدة مدن ترفض الخصخصة في مجال الموارد المائية. فمثلا مدينة باريس أعادت عام 2010 إدارة خدمات المياه في العاصمة إلى البلدية بعد أن كانت الشركات الخاصة تديرها لمدة 25 سنة. وبهذه العملية انخفضت تعرفة المياه في العاصمة الفرنسية. كما هي الحال في مدينتعي غرونبل وشربور، وهناك عدة مدن كبرى فرنسية في سياق إعادة النظر في الخصخصة ومنها مدينة بوردو.
إنّ الترويج بأن القطاع الخاص يتمتع بكفاءة أعلى من القطاع العام، الأمر الذي يتوهمه المواطن، هو غير دقيق. إنّ العديد من الدراسات التي أصدرت بهذا الشأن، خلصت الى أنه لا يوجد فرق كبير بين أداء القطاع الخاص والقطاع العام. وهذا ما أكّدته دراسة مفصلة في جامعة غرينويش في بريطانيا، الدولة الرائدة في خصخصة قطاع المياه، والتي أظهرت أنه بعد 11 سنة من الخصخصة، أصبح أداء الشركات الخاصة أقل كفاءة من القطاع العام، على الرغم من امتياز هذه الشركات بامتلاك تكنولوجيا أفضل من المؤسسات الحكومية.

زيادة التعرفة

أماّ في ما يتعلّق بصورة خاصة بالتعرفة، فإنّها أعلى في القطاع الخاص من التعرفة التي يحددها القطاع العام، وذلك نتيجة لعامل الربح الذي تبتغيه الشركات الخاصة. وشهدنا في أوروبا معارضة المواطنين للخصخصة، على سبيل المثال في إيطاليا صوّت المواطنون في استفتاء أجري عام 2011 ضد مشروع قانون كان مقترحا لخصخصة قطاع المياه في البلاد. وهذا ما أظهرته الـBBC البريطانية في عام 2006، وبعد 17 سنة من الخصخصة، أن الأكثرية من الذين اشتركوا في الاستفتاء يفضلون عودة هذا القطاع الحيوي إلى المؤسسات العامة.

الخصخصة في لبنان

وبالعودة إلى لبنان نلاحظ، بالرغم من أن تقييم الاحتياجات المستقبلية للمياه يختلف بحسب المراجع، أنه أصبح من المعترف به أن لبنان سيعاني عجزاً في موارده المائية في المستقبل.
وانطلاقا من الدراسة التي أصدرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والمبادرة الأوروبية للمياه نستشف أنه لمعالجة العجز المائي المرتقب في لبنان، أصدرت الحكومة اللبنانية عدة استراتيجيات تتضمن مشاريع مرتبطة بالري ومياه الشفة والصرف الصحي، كما تتضمن استراتيجية لتخزين المياه عبر إنشاء 23 بحيرة جبلية و18 سدا، ثلاثة منها مصممة لإنتاج الكهرباء.
إلا ان الصعوبة في إيجاد التمويل لهذه المشاريع عزز مجددا اهتمام الدولة بإشراك القطاع الخاص. حتى الآن كان إشراك القطاع الخاص في المشاريع المرتبطة بالموارد المائية يقتصر على أعمال محددة غير مرتكزة على سياسة عامة وشاملة، نذكر منها العقد الذي أبرمته مؤسسة مياه لبنان الجنوبي عام 2007 لمدة ثلاث سنوات مع شركة خاصة لمعالجة إدارة القضايا المالية في المؤسسة والذي موّلته الوكالة الأميركية للتنمية، خصوصا أن المؤسسة تفتقر إلى الموارد البشرية لإدارة هذه المسألة.
تجربة أخرى مع القطاع الخاص في مؤسسة مياه لبنان الشمالي بتمويل من الوكالة الفرنسية للتنمية لتأمين خدمات مياه الشفة في مدينة طرابلس وضواحيها. هذا العقد أبرم بين شركة ONDEO LIBAN وامتدت مدته ما بين 2003 و2007. وكان جدال واسع حول هذه التجربة، ما أدى إلى عدم استكمال هذه الشراكة بين المؤسسة والقطاع الخاص. إن تقييم هذه التجربة قد يخدم في جعلها أساسا للحوار وللتقييم الشامل للعوامل التي أثّرت على مخرجات هذه التجربة وتحديد الإصلاحات الضرورية لتحسين الشراكة مع القطاع الخاص.

الإطار التشريعي

حددت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية المسؤوليات اللازمة التي يجب على الدولةا تباعها من أجل إنجاح الشراكة مع القطاع الخاص. من أهمها: إنشاء سياسة عامة وإطار قانوني وهيئات ناظمة لمراقبة أداء الشركات الخاصة مع التشديد على الشفافية واحترام القوانين. وتؤكد الدراسة على أنه يجب توكيل مهمة المراقبة في الهيئات الناظمة للقطاع العام بعد تحصينه بالموارد البشرية المستقلة والمتخصصة والكفوءة.
وكلنا يعلم أنه قبل عام 2000 كانت مصالح المياه مشتتة إلى أن وحّدت بأربع مؤسسات بالقانون 221/2000 الذي تم إبرامه عام 2005 تحت ضغط بعض المؤسسات الدولية. لكن، حتى اليوم، لم تحصّن هذه المؤسسات بالموارد البشرية والمالية لتؤدي عملها على أحسن حال. بالإضافة إلى أنّ في المرحلة ذاتها التي كان فيها البرلمان اللبناني يدرس القانون 221، تمّت دراسة قانون الخصخصة 228 وإنشاء المجلس الأعلى للخصخصة. وهناك أيضا» مشروع قانون مرتبط بمشاركة القطاع الخاص في جميع القطاعات أعده المجلس المذكور، ووافق عليه مجلس الوزراء عام 2007، وهو بانتظار موافقة المجلس النيابي. يعطي هذا القانون الصلاحية للمجلس الأعلى للخصخصة في تقييم وإقرار المشاريع المشتركة مع القطاع الخاص وتحضير الأطر والمناقصات لاختيار الشركات الخاصة بالإضافة إلى تحديد الآليات لمراقبة وتقييم أداء الشركات الخاصة خلال تنفيذ المشروع الموكل لها. وضمن هذا الإطار يتم توقيع هذه العقود من قبل المؤسسة العامة المعنية مع موافقة مجلس الوزراء عليها. وقد حددت مدة هذه العقود بـ 25 سنة.

تقوية الإدارة العامة

وهنا يجب الإصرار على النواحي التالية في حال إشراك القطاع الخاص بمشاريع خصوصا» تلك المرتبطة بالموارد المائية. الأهم والأساس هو تقوية الإدارات العامة وتجهيزها بالموارد البشرية المتخصصة والكفوءة والمطلعة على جميع بنود العقود المبرمة مع القطاع الخاص مثل القدرة على إدارة المسائل التجارية وهذه الكـفاءة يجـب أن توازي كفاءة العنصر البشري في القطاع الخاص. ولذا يتوجّب على المسؤولين دراسة وتحضير العقود مع القطاع الخاص بأعلى مستوى من الخبرة والمعرفة. ومن المستحسن أن تكمل الدولة الأطر القانونية الشاملة قبل أن تباشر في إبرام عقود متنوّعة متفرّقة مع القطاع الخاص لضمان الشفافيّة وحسن الأداء ونجاح هذه الشراكة على المدى الطويل وضمان المصلحة العامة.
إلا انّه، كما ذكرنا، تفتقر الوزارات ومؤسسات المياه في لبنان إلى العنصر البشري المتخصص والعنصر المالي لضمان مراقبة الشراكة مع القطاع الخاص. ولذا نطالب بالعمل على تأمين هذه النواحي في الإدارات العامة قبل المباشرة بإبرام أي عقد مع القطاع الخاص. بالإضافة إلى أنّ مشروع القانون المرتبط بشراكة القطاع العام والخاص والذي يعطي الصلاحية للمجلس الأعلى للخصخصة لتحضير الأطر والسياسة العامة، وإعداد برامج الخصخصة وطرق تنفيذها، لم يلحظ الصلاحية لتحسين قدرات الموارد البشريّة في القطاع العام، وهو القطاع الذي أوكلت له مهمة تنفيذ وتقييم البرامج والمشاريع.
إن تجربة الدول في العالم تشير إلى أن تحسين قدرات الموارد البشرية في القطاع العام هو من أهم العوامل لإنجاح هذه الشراكة على أساس عادل بين القطاعين.

إيمان إبراهيم عبد العال

السابق
انعدام التواصل
التالي
ولي العهد السعودي لبري: أين رئيسكم؟