ماذا لو..؟

خص رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان وليد جنبلاط القبس بمقال علق فيه على مقال للمفكر والمناضل من اجل السلام يوري افنيري، حول زيارة البابا الى القدس، وتطرق فيه الى مشروع مؤسس الصهيونية العالمية ثيودور هيرتزل، الذي كان يفكر باقامة الدولة اليهودية في باتاغونيا جنوب الارجنتين، ويسرد جنبلاط، على طريقته الساخرة الهادفة، محطات تاريخية وارتباط هذا التاريخ بالسؤال المعجزة «ماذا لو..؟».

يشكل التاريخ والحياة سلسلة من المصادفات، فعندما كنت طالباً في الجامعة الاميركية في بيروت (في عام 1969)، سنحت لي فرصة الالتحاق بمقررات مع اساتذة بارزين وآخرين يصيبون بالسأم والملّل.

أحببت التاريخ، ولكن كان مطلوباً منا الالتحاق بـ«كورسات» مملة مثل علم النفس، والاقتصاد، التي بالكاد نجحت فيها.

اما بالنسبة للتاريخ، فقد كنت محظوظاً أن اتلقى محاضرات حول الامبراطورية العثمانية، على يد البروفيسور زين زين، فهو يتميز بأسلوب فريد، في القاء المحاضرات حول تلك الفترة التاريخية، حيث كان العرب واليهود يعيشون في سلام نوعاً ما تحت حماية السلطان.

كان البروفيسور زين قصير القامة أشيب الشعر، ويتميز بنبرة آسرة في صوته، تتراوح ما بين الرقة والدرامية، ويتوقف ذلك على موضوع المحاضرة التي يلقيها.

كما كانت لديه جاذبية خاصة تجعل الطلاب ينسون الوقت الفعلي الذي يعيشون فيه، ويجعلنا نعود إلى الماضي عبر القرون، من خلال الاحداث المختلفة للتاريخ العثماني.

ومن بين الموضوعات التي تناولها في محاضراته فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح، وهو يقدم ذلك بأسلوب استعراضي آسر مثل فيلم المخرج كوبولا «القيامة الآن».

كما كان يقدم بطريقة الهمس المؤامرات الخفيّة داخل منطقة حريم السلطان، ومحظياته المقربات، والتي قادت الى احداث غير مسبوقة بالنسبة لمصير الامبراطورية.

وهناك في جناح حريم السلطان، اقنعت روزالين الكسندرا ليسوفكا المولودة في روهاتين، في مملكة بولندا في ذلك الوقت واواكرانيا حالياً، اقنعت السلطان سليمان القانوني فاتح بلغراد، ورودس، واقترب من فتح بودابست، بأن يتخلص من ابنه الاكبر مصطفى ابن زوجته الأولى.

والحب مثل الموت، وقد تم قتل مصطفى خنقاً امام والده، وابن حريم السلطان، خلف سليمان القانوني، ويذكر في كتب التاريخ انه «سليمان السكّير».

وكان في مقدور المؤلفة اغاثا كريستي ان تكتب رواية بديعة، الا انه لم يكن هنالك قطار الاورينت اكسبريس في تلك الايام.

واذكر ما حدث وكأنه وقع اليوم، فقبل 45 عاماً مضت، توقف البروفيسور الزين فجأة وحدّق فينا، وقال «هذه هي اسئلة التاريخ… أي: ماذا لو….؟».

وبعد وصول المحاضرات – لسوء الحظ – الى نهايتها، وبنهايتها انتهت الامبراطورية العثمانية بعد 500 عام من الحكم. واقتبس زين قول لويد جورج «يجب ان تختفي الامبراطورية العثمانية عن الوجود».

ومنذ ذلك التاريخ والى الآن فان اسئلة «ماذا لو…» تقرر مصير أمم وشعوب باكملها.

ولهذا السبب فان موقع «الدولة اليهودية» بدلا من ان تكون في باتاغونيا، انتهى بها الامر إلى ان تقام في فلسطين، وذلك على العكس مما كان يرغب فيه هيرتزل فيما يبدو.

وليس لدي شك في ان هيرتزل لا يستسيغ فلسطين والقدس، وكان يرغب في تفادي الحركة الدينية التي ظلت تقود اليهود دوماً نحو الكوارث. وباتاغونيا كانت ستصبح المكان والموقع المثاليين.

وفضلا عن ذلك، فانه في القدس، تلك المدينة المقدسة، نجد ان سكانها بالرغم من تحدرهم من جد واحد هو النبي ابراهيم، فانهم يتعايشون وفق تراث العديد من الانبياء والآلهة ممن ورثوه، ولهذا السبب فان كل واحد يكره الآخر، بل حتى ضمن الاسرة الروحية ذاتها.

وباتاغونيا في هذه الحالة كانت ستصبح اكثر امنا لان ابراهيم لحسن الحظ لم تكن لديه معرفة بوجودها فيما يبدو.

وبالطبع لا احد يعرف ما كان يقوله البابا في صلاته الى الرب. الا انني اظن انه كان يصلي من اجل السلام، ولكنه كان يقول له شكرا يا مولاي وشكراً لان «ماذا لو» جعلت بيريس ونتانياهو بعيدين عن باتاغونيا، لانهما لو وجدا لاحتلا بقية الارجنتين، وكنت سأتحول الى لاجئ في مكان ما في الامازون بدلا من ان أصبح الحبر الاعظم.

 

السابق
حذار احتراق العنقاء.. هذه المرة
التالي
قراءة في أفكار عبد الكريم سروش