وجيه قانصو: تلبّس الثقافة بالأيديولوجيا جعلها عاجزة

وجيه قانصو
"تلبّس الثقافة بالإيديولجيا الحزبية أحد الاسباب التي جعلت الثقافة عاجزة عن ان تستقل بالقرار السياسي، ولو بالحدّ الادنى الذي يتيح لها ان تنتج معرفة حقيقية، معرفة متبصرة قادرة على رؤية الاشياء وفهمها وتحليلها وما يلزم لعلاجها"، يقول الباحث الدكتور وجيه قانصو في حديث خاصّ لـ"جنوبية"، ويضيف: "مثقّفو الجنوب هم الذين نشاطه الثقافي لا ينحصر في الدين أو الماركسية. والثقافة هي أن يرفد المثقّف الشأن العام لا أن يغرق في الخاصّ".

 

على مرّ العقود اللبنانية الحديثة ظهرت العديد من المنتديات الثقافية القومية، والبعثية، واليسارية، وحاليا الاسلامية. وهي، في معظمها، تمجّد ثقافة التحزّب. فلماذا لا يمكن للبناني والعربي أن يمتلك ثقافة الرأي الحر بعيدا عن الايديولوجيا؟

قد يكون تلبس الثقافة بالإيديولجيا الحزبية أحد الاسباب التي جعلت الثقافة عاجزة عن ان تستقل بالقرار السياسي، ولو بالحدّ الادنى الذي يتيح لها ان تنتج معرفة حقيقية، معرفة متبصرة قادرة على رؤية الاشياء وفهمها وتحليلها وما يلزم لعلاجها.
ولما كانت الثقافة ملكا للمجال العام، فيجب أن تبقى في دائرة المجال العام. وعندما تصبح نتاجاً لصالح مجموعة على حساب مجموعة اخرى، لا تعود ثقافة، بل تصبح جزءا من مشاريع صراع الارادات الموجودة في المنطقة. فهذه المشاريع تعرف انّ الوعي والتمثلات جزء أساسي من معركتها، وتعمل على تعويم صورتها وتمثلاتها. فلا تعود بذلك ثقافة بل جزء من نشاط سيطرة وهيمنة وغلبة.
فالثقافة ليست تغليب صورة على صورة، بل هي مشاع المجتمع بأسره، ولا بد أن يصب نتاجها في صالح المجتمع كله. هي وظيفة عامة يفترضها المجتمع لكل افراد المجتمع، ومهمة ضرورية لتنظيم شؤونه وتدبر احواله ومساراته. لكن عندما تصبح الثقافة مشهدا سياسيا يكون ظاهر التعبير فيها ظاهرا ثقافيا، لكن يندرج مضمونها السياسي في اطار التعبئة العامة للمشاريع الخاصة في المنطقة. هنا تخرج الثقافة عن وظيفتها.

من هي الشخصية الثقافية الجنوبية التي تستحق لقب مثقف؟

يمكن القول إنّ الجنوب شهد نهضة ثقافية وفكرية لافتة سواء على مستوى الكم او على مستوى الكيف من خلال انخراط الجيل الجنوبي منذ الخمسينيات وحتى اليوم في المشاريع العربية العامة. فقد اعتبروا أنّ فلسطين جزء لا يتجزأ منه، وهذا الانتماء دفع الجنوبي الى الانخراط في المشاريع السياسية الموجودة والى التبحر في الموضوعات الفكرية. ما أدّى الى ظهور شخصيات اكاديمية وعلمية ودينية مرموقة لا ينحسر اداؤها الفكري في مجال متخصص ضيق، بل تطلّ على الموضوعات الكبرى التي انشغل بها الفكر العربي خلال 50 عاما، تبدأ بالسيد موسى الصدر، الذي لم يكن نشاطه الثقافي منحصراً بصفته الدينية، بل كان شخصية طليعية للقضايا العامة، وتتجاوز قضايا طائفتها لتطل على الحلول الاوسع للقضايا العربية واللبنانية. وهنالك أيضاً الشيخ محمد مهدي شمس الدين، والسيد محمد حسين فضل الله، ويوجد اليوم السيد محمد حسن الأمين والسيد هاني فحص.
يمكننا أن نسميّ كلّ الشخصيات الماركسية الجنوبية على أنّها شخصيات فكرية بامتياز حيث انها اعتمدت الفكر الماركسي منهجا لتفكيرها وليست ايديولوجيا فقط، من قبيل حسين مروة ومهدي عامل وأحمد بيضون ووجيه كوثراني، وهي شخصيات تستحق التقدير، وانتجت نتاجات مهمة في دائرة الفكر العربي واللبناني، وكانت منشغلة باشكالية النهضة والحداثة وليس في المشاكل الضيقة التي تخص طائفة، بل أطلت على الدائرة الاوسع، ما جعلها ترفد المجتمع بأسره وليس فئة خاصة.
اهم ميزة للمثقف، هي أن يرفد العام ولا يغرق في الخاص، والثقافة تكتسب قيمتها لتشكّلها مع الثقافة الخاصة الاخرى لتصبح دائرة عامة واسعة مع ثقافات خاصة اخرى.

هل نحن بحاجة الى المثقف العضويّ الذي يعمل على التغيير ام الى الفيلسوف الذي يجترح الافكار التي تتموضع في المجتمع بأشكال متعددة؟

المثقف ليس كائنا شخصيا ينتج لذاته. وعمله ليس عملا تأمليا منسلخا عن قضايا المجتمع وأزماته. المثقف كائن عضوي ولا يمكن للثقافة ان تنسلخ عن المجتمع. والفلسفة ليست عملاً منفصلا عن التاريخ والزمن، بل انها تفكر لزمانها وعالمها. أما الفلسفة، فتذهب نحو منطقة الحقيقة والمعنى الكامن وراء الافكار، إلا أنها تبقى نشاطاً تاريخياً وداخل هذا العالم وليس خارجه. لذلك فالمثقف لا يمكنه الخروج من التاريخ ولا ان يفكر خارج الزمن الذي ينتمي اليه، وعلاقته مع المجتمع تبقى علاقة جدلية تنطوي على قابلية التجاوز.
وعلينا هنا ان نميّز بين التجاوز وفكرة الانسلاخ عن المجتمع. فالمثقف مشغول بفكرة تجاوز الأوضاع التي يقوم عليها المجتمع. الايديولوجيا تمجد الافكار أما المثقف فوظيفته هو نقد هذه الافكار. الأيديولوجيا نشاط تمارس على خشبة مسرح لإقناع الحضور بفكرة أو موقف، أما المثقف فلا يجلس بين الحضور، بل يقف خلف المسرح وينظر الى اللعبة المسرحية بأسرها، ولعبة توزيع الأدوار فيها.
من هنا فالمثقف متحرّر من النرجسية في التفكير، ومن الذاتية، ولديه ميل دائم كي يرى الامور، ليس كما تبدو بل من خلال مكوناتها الداخلية ودينامياتها غير المرئية. فالثقافة ملك المجتمع، إلا أنّها وظيفة لا يمارسها أيّ فرد، بل لا بدّ لمن يمارسها أن يتمتع بميزات خاصة، يقدم للمجتمع افضل ما عنده، ويظهر الاشياء الخفية التي لا ترى عادة بالنظر البسيط والتداول الشعبي العام. فعضوية المثقف الاجتماعية لا تعني تكرار وتبجيل ما يقوله الناس ويعتقدونه، بل تعني مسؤوليته امام المجتمع في أن يقدّم له افضل ما عنده، ويبذل كامل جهده في اقتراح ما هو أفضل للمجتمع والفرد والحياة.

السابق
الفراغ يناديكم
التالي
هذا هو مرشح هيفا لرئاسة الجمهورية