هل الباقون كلّهم ذمّيون؟

تتضارب الأخبار عن لبنان وفي لبنان حول حوارات للإتفاق من هنا وإشتباكات سياسية – ولو كلامية – من هناك. لا يسع المواطن العادي البريء إلا أن يفرح بالأخبار عن إمكانية عقد الإتفاقات، أيّ إتفاقات، فتهدأ الأمور ويستعيد البلد أنفاسه وتعود عجلة الإقتصاد الى الدوران والنشاطات الإجتماعية الى التكاثر مثل الفطر في الأحراج، ويعود الأمل الى مخيلة اللبنانيين ولاسيما الشباب منهم، بإيجاد مستقبل لهم في وطنهم دونما حاجة للهجرة. وكما يفرح المواطن العادي هذا لخبر الإتفاقات يحزن ويقلق لسماع السجالات الكلامية في ما بين السياسيين وهو ينسى للحظة أنهم مهما اختلفوا سيلتقون لا محالة على التمديد لمجلس النواب، 17 شهراً، بإجماع المتخاصمين والمتقاتلين والتمديد الثاني أتٍ على الطريق.

ظهرت عفة إحترام الدستور فقط عندما جرى الحديث ولو همساً في إمكانية تمديد ولاية رئيس الجمهورية لسنة أو سنتين ريثما تنجلي الأوضاع الإقليمية المستحكمة بالوضع الداخلي اللبناني، بإقرار الجميع. وراح البعض وهو لم يعد أمامه كبير غير الجمل – يقذف بما لديه من حمم – لتحمية الجوّ وإعادة البلاد الى الكباش وأجواء الفتنة… هل نحن في صدد الحديث عن الإنتصار أو الغلبة ام عن التوافق والوفاق؟!…

في هذا السياق، لا بد من تسجيل ملاحظتين إثنتين حول ما سمعه المواطنون الأبرياء اخيرا حول إتفاق ثلاثي أو سيبة قد يتم تركيبها بين ثلاث قوى من أقوياء الطوائف. وهم – أي المواطنون – يتساءلون هل الإتفاقات الثنائية والثلاثية والرباعية منسجمة مع روح الدستور وروح إتفاق الطائف أم أنها مشاريع تحالفات الغائية لكل الآخرين؟ فالجميع يصلي ويطلب من الله ان يتبدد الخصام والإحتقان بين التيار الوطني الحرّ وتيار المستقبل والجميع يرى في أي تقارب لبنة في مدماك الوفاق الوطني اللبناني. وليس هناك أكثر قدرة من العماد عون الذي عقد يوماً تحالفاً إستراتيجياً مع حزب الله – ليس أقدر منه – على نقل أجواء التهدئة والتطمين ووسائل التطمين بين حزب الله وتيار المستقبل. فهو يحظى بثقة السيد حسن نصر الله وهو يسعى اليوم لبناء أجواء الثقة نفسها مع تيار المستقبل وزعيمه سعد الحريري.

فالملاحظة الأولى هي إلى أي مدى يمكن لتحالف القوى الثلاث المذكورة أن يؤسس للإستقرار أوليست هي هدنة بين الفريقين المتخاصمين الرئيسيين؟ وماذا سيحصل إذا ما عادت الفرقة بينهما؟

الملاحظة الثانية أكثر خطورة وهي تتصل بجوهر النظام الديموقراطي التوافقي، علماً أنه في لبنان ليس ثمة نظام ثنائي بل متعدد الطرف. فهل الإتفاق بين قوى سياسية رئيسية في طوائفها يغني عن مشاركة القوى السياسية التي تمثل طوائف أخرى في الحكم وفي تقرير المصير؟ أولَيس الإتفاق الثلاثي مشروع هيمنة واقصاء للآخرين؟ فيصبح المواطنون من غير الطوائف الثلاث ذمييّن؟

ثمّ إذا عدنا الى كل طائفة وجدنا أن بعض الطوائف يعيش حالة استقطاب واسعة إذ أن الزعامة السياسية داخل بعض الطوائف تتميز بهيمنة كبيرة – إن لم نقل إحادية – لفريق سياسي أولشخصية سياسية كبيرة. هذه حال السنّة مع آل الحريري وحال الشيعة مع الثنائي حزب الله – أمل وحال الدروز مع بيت جنبلاط – وفي الأوساط المسيحية تميل الدفة الشعبية لمصلحة التيار الوطني الحرّ من دون إحادية لغاية اليوم.

والإتفاق الثلاثي الموعود من شأنه تعزيز موقع كل فريق من الفرقاء الثلاثة ضمن طائفته فيهيمن أكثر ويتحكم أكثر بقيادتها. فماذا يصبح الآخرون، المختلفون عن الخط السائد في طائفتهم؟ أيصبحون ذمّييّن؟ وأين تداول السلطة إذا كان هناك إعتماد لمبدأ تحالف القوى الرئيسية في الطوائف الثلاث؟

* * *

إن لبنان قد اندفع نحو المجهول بعد شغور سدة الرئاسة ومازالت المساعي تبذل لإيجاد حل لموضوع إنتخاب رئيس الجمهورية.
ونحن اليوم، مواطنين أبرياء وغير أبرياء، أمام أحد حلّين:

1 – إنتظار صفقة ما قد تتأخر شهوراً وربما سنوات ويخلق الله ما لا تعلمون. وهذه الصفقة إن عُقدت فهي ستجهزعلى النظام التعددي اللبناني وتستعيض عنه بنظام إحادي بثلاث أرجل ويكون سائر اللبنانيين الآخرين مجرد أهل ذمة.

2 – الدفع في إتجاه بحث جدي في إعادة وزن الى الدور المسيحي من خلال إعادة رسم ملامح رئيس جمهورية يكون مسنوداً الى حيثية نيابية فإذا ما اعتلى سدة الرئاسة يكون له دور ورأي من خلال الكتلة النيابية المنسجمة معه. وفي هذه الحال، ليس هناك حاجة لطلب أي تعديل لإتفاق الطائف طالما أن الرئيس يكون فاعلاً من خلال كتلة نيابية وازنة في ميزان القوى السياسي، الحكومي والنيابي.

3 – وإذا بقي الإتجاه الى البحث عن شخصية يرضى عنها الفريقان فسيتم البحث من جانب كل طرف عن شخص يمكن التأثير عليه. وسيكون الرئيس عندها موضوع تجاذب بين السنّة والشيعة ويفقد كل وزن في التأثير على صناعة القرارات. ولا يسعنا الإشارة الى الصعوبات التي واجهها الرئيس سليمان خلال عهد كامل لمسك العصا من الوسط في ظل الضغوطات التي كان يواجهها من كلا الفريقين عدا عن إبتزاز الآخرين.

أمام هذا المشهد لا نستغرب أن يعود المسيحيون الى طرح موضوع تعديل إتفاق الطائف على الطاولة وعندها يصحّ قول المثل “إن الغريق لا يخشى من البلل”.

يبقى أن هناك جزءا واسعا من اللبنانيين – ونحن منهم – قد سئموا من لعبة الطوائف وغنج النخب الطائفية وهناك أيضاً خطر كبير من أن ينزلق لبنان الى احادية فيديرالية في الشكل وسلطوية في المضمون ويتعذر عندها أي تداول للسلطة. أين نكون من مشروع الدولة الحديثة في هذا الشرق، دولة الحقوق والحريات، الدولة الديموقراطية بإمتياز؟…

إن مدخل الحل لهذا المأزق الذي وصلت إليه البلاد هو في قانون الإنتخاب. وإذ نعود ونؤكد أن النظام الأكثري معطوفاً على تقسيم استنسابي للدوائر الإنتخابية هو الذي ساهم في وصول لبنان الى المأزق أي ضرورة تمثيل النخب الأكثر تمثيلاً في كل طائفة فتشكيل حكومات غير متجانسة وشلل الحكم وغياب إمكانية أي تداول للسلطة، نرى أن الإنتقال الى النظام النسبي أو نظام الصوت الواحد أو حتى نظام الدائرة الفردية إلخ… يمكن أن يساهم في تحريك الأكثريات وكذلك التحالفات.

فإذا إعتبرنا أن تداول السلطة مبدأ أساسي لأي نظام ديموقراطي وجب أن يضمن قانون الإنتخاب إعادة تشكل إتجاهات الرأي العام فتعود عندها المنافسة على كل المستويات وحتى داخل الطائفة الواحدة والمذهب الواحد حول القضايا المطروحة وما أكثرها. وفي هذه الحال يتجه الفرقاء جميعاً الى عقد تحالفات سياسية خارج طوائفهم ومذاهبهم ونكون قد انتقلنا من النظام الطوائفي الى نظام مدني غير طائفي. هذه الصيغة تنقذ الديموقراطية التوافقية وتنقذ إتفاق الطائف وتنقذ لبنان الدولة الحديثة.

حبذا لو نضع جانباً كل الثلاثيات، الخشبية والذهبية والسيبة الثلاثية وننتقل جميعاً الى طاولة متعددة الطرف يلتقي حولها كل إتجاهات الرأي بين اللبنانيين وتتشكل الأكثريات وتتفكك ويعاد تشكلها بأشكال وأشكال الى ما لا نهاية، تاركين وراءنا كل أنواع الخشب والمعدن – من الذهب الى الرصاص والصواريخ قريبة المدى – أي المخصصة لإستهداف الأهل…. والسلالم والسيبات ونتهافت على خدمة لبنان وإعادة الحصانة الى حدوده والمناعة الى نظامه والهيبة الى دستوره وقوانينه والعزة الى أهله.

مديرة معهد العلوم السياسية في جامعة القديس يوسف

السابق
الائتلاف الوطني السوري: ‘داعش’ عدو السوريين
التالي
حماده: الفراغ يجذب عناصر غير شرعية ومسلحة الى لبنان