تدريب شائك على قضيّة شائكة

تركيا

يوم الثلثاء الماضي (27 أيار 2014) فاجأ الرئيس الأرميني سيرج سركيسيان الأوساط السياسية التركية بتوجيهه دعوة لرئيس جمهورية تركيا لحضور مراسم إحياء ذكرى مرور مئة عام على أحداث 1915 المأسوية التي أسفرت عن ترحيل الأرمن من الأراضي التي كانت تحت الحكم العثماني. وستجرى هذه المراسم في نيسان العام 2015 في يريفان عاصمة جمهورية أرمينيا.

في مقالي “الأتراك والأرمن: صيغة عقلانيّة للاعتذار” (29/ 4/ 2014) تخيّلتُ صيغةً حرفيّة لاعتذار إلى الشعب الأرمني يصدر عن مرجع أو مراجع في الجمهوريّة التركية ويمكن أن يكون مقبولا من الرأي العام التركي.
لِمَ لا يحصل هذا “التمرين” الديبلوماسي بين طلاب العلوم السياسيّة في بعض جامعاتنا من حيث قيام أساتذة العلوم السياسيّة بإشراك طلاّبِهم في نقاش واقتراح صِيَغٍ وأفكار حول هذا الموضوع المعقّد كواحدٍ من الملفات الكبرى التي تصمُّ آذان عصرنا؟ إذْ معرفة كيف يفكِّر الجيل الشاب اللبناني، من كل الطوائف والأديان والقوميات بما فيه الشباب الأرمن، في مسألة بهذه الأهمية هو ما سيكون مؤشِّراً على نضج هذا الجيل وثقافته وقِيَمِه. وسأكون ممتنّاً لو أحاطني بعض من يرغب من الأساتذة بنتائج هذه التجربة أو أن يكتبوا هم مباشرة على ضوء ما قرأوه وسمعوه من طلّابهم مساهماتٍ في الصحافة علّها تساعد في توسيع مساحة النقاش لبنانيّاً وعربيّا.
للتذكير… فإن الصيغة بحرفيّتها التي تخيّلتها في المقال السابق لاعتذار يصدر عن رجل دولة باسم الدولة التركية كانت التالية:
“عانت الشعوب التي كانت تتألّف منها السلطنة العثمانية مآسي كثيرة هائلة جرّاء الحرب العالميّة الأولى. كما شهدت السلطنة في هذا السياق حرباً أهلية داخل أراضيها بين الأتراك والأرمن ساهمت القوى الأجنبية المتحاربة في تأجيجها.
“تعترف الجمهورية التركية وهي تستعيد بكل احترام ذكرى الضحايا الأبرياء الكثيرين من المدنيّين في تلك الحرب ولاسيما الأتراك والأرمن، تعترف بالهول الخاص لمعاناة الأرمن بعد قرار السلطة العسكرية الحاكمة في اسطنبول ترحيلَ مئات الآلاف من الأرمن من مناطق إقامتهم في القوقاز والأناضول مما أدّى إلى سقوط أعداد ضخمة من النساء والأطفال والرجال بينهم في ظروف صعبة للغاية أقل ما يُقال فيها إنها غير إنسانية.
“إن الجمهورية التركية وهي تراجع بمسؤولية عالية هذا الإرث التاريخي المؤلم تتقدم باعتذارها إلى الشعب الأرمني وتتعهّد بالاستمرار في بذل أقصى الجهود لتوطيد أواصر العلاقات مع جمهورية أرمينيا على أساس الاحترام المتبادل لسيادة وحدود كلٍّ من الجارتين تركيا وأرمينيا وتتطلّع إلى بناء مستقبل مزدهر تسوده قِيم الحداثة والديموقراطية”.
الصديق الدكتور شبلي ملاط زارني في “مكتبي المؤقت”، أي على سرير المرض في الغرفة التي أقيم فيها في مركز العلاج الفيزيائي في مستشفى بْحنِّس، وأثار خلال الحديث وبمناسبة مقالي المشار إليه، مسألةً في غاية الأهمية وهي التصنيف القانوني للفعل الجرمي الذي يتناول الخلاف التركي الأرمني. وهي نقطة صدف أنه يثيرها، كأستاذ في القانون الدولي، في كتابٍ جديد له سيصدر قريباً حول “اللاعنف”.
أرسل لي شبلي ملاط هذه الفقرات من مخطوطة كتابه فطلبْتُ منه أن يتولّى هو شخصياً ترجمتها إلى العربية عن الإنكليزية التي يصدر بها كتابُه، ولبّى مشكوراً، وهذه هي الفقرات التي يعتبر فيها أنه لا مبرر لوجود جريمة “الإبادة” كفئةٍ قانونية مستقلة لأن تصنيف “جريمة ضد الإنسانيّة” كافٍ وحده. يكتب حرفيّاً:
– الإبادة (إبادة الجنس، genocide) جرمٌ أكثرَ ضراوةً وأكثر اتساعاً من الجريمة ضدّ الإنسانية في الظاهر، لكن الوضع الخاص الذي تصبو اليه في العالم الفقهي كما في التعامل الواسع عند الجمهور لم تمنع خصوصيته من إدخال الإبادة extermination في عداد لائحة الجرائم ضد الإنسانية المنصوص عنها في المادة السابعة الفقرة الأولى من قانون المحكمة الجنائية الدولية. لا أرى فرقاً مقنعاً بين الإبادة extermination والإبادة genocide ولم يقدِّم رفايل لِمكِن Raphael Lemkinكلمةً مفيدةً لأهل القانون. والإبادة genocide جريمةٌ أحدث في القاموس القانوني من الجرائم ضد الإنسانية، إبتكرها رفايل لمكن Raphael Lemkin, Axis rule in occupied Europe: Laws of occupation (حكم المحور في أوروبا المحتلّة: قوانين الإحتلال) Washington, D.C.: Carnegie Endowment for International Peace 1944, 79 قائلاً: “مفاهيم جديدة تحتاج الى كلمات جديدة”.
فلوْ تمّ النظر الى طبيعة هذه الجريمة الجماعية بدقّة، لكُنَّا أُرِحْنا من مهاترات كونية لا نهاية لها حول ما إذا كان قتل الأرمن المبرّح على يد القادة الأتراك خلال الحرب العالمية الأولى، أو قتل الأكراد المبرّح في عملية الأنفال التي أطلقها صدام حسين في 1987 – 8، هما بمثابة genocide أم لا. فإبادة الجنس إذا كنا نحتاج اليها أصلاً كجريمة منفصلة، هي مجرد حالةٍ إضافية في لائحة تشمل الإبادة extermination من ضمن الجرائم ضدّ الإنسانية.أما كلمة genocide، فهي مفهوم يجرجر عبئاً عاطفياً جباراً من دون الاستناد الى الوضوح الكافي قانونياً لإنشاء فئة أخرى من الجرائم.
لن تزول حدة النقاش قريباً. وقد ينجح التعبير عن شناعة الجريمة بإضفاء إسم خاص لمثل هذه الجرائم المميزة في التاريخ المعاصر، كما في حالة الأبرتئيد من فعل البيض في أفريقيا الجنوبية، و”الرياض القاتلة” Killing Fields للخمير الحمر، و”هولوكست” هتلر، و”أنفال” صدام، و”نكبة” الصهيونية، و”صبرا وشاتيلا” شارون، كما درجت الحال لمجازر شهيرة في التاريخ أمثال “دكّ درسدن bombing of Dresden” و”Sainte Barthélémy” أو “هيروشيما ونكازاكي”. يعبّر الأرمن عن محنتهم بعبارة “Medz Yeghern، الجرم الكبير” وعلى الأتراك على الأقل أن يعتنقوا المصطلح – ( انتهى رأي ملاط).
من الواضح أن النخبة الثقافية والليبرالية التركية، بما فيها بعض النخب المحافظة (الإسلاميّة) ، أصبحتْ جاهزة لقبول فكرة اعتذارٍ تركيٍّ بصيغةٍ ما من الأرمن. لكنّ هؤلاء المثقفين الذين باتوا لا يتردّدون في وصف ما حدث تجاه الأرمن عامي 1915 و1916 بالجريمة المنظّمة، قد لا يقبلون التوصيف الأرمني، التعبوي بنظرهم، على أن ما حصل هو إبادة، وإنما يدينون بوضوح قرار حكومة الاتحاد والترقّي الحاكمة يومها باعتباره قرار ترحيل جماعي قسري للأرمن من المناطق التابعة للحكومة العثمانيّة أدّى إلى مآسٍ وعملياتِ قتلٍ وتنكيلٍ جَماعيّةٍ لأعدادٍ ضخمةٍ من الضحايا.
أين تقف النخبة الأرمنية بل النخب الأرمنية من هذا التطور الثقافي وجزئيّاً السياسي وهل تتقدّم هذه النخب لتُلاقي مثقفين وسياسيين أتراكاً في منتصف الطريق لوضع حدٍّ لهذه المسألة ومواجهة القوميّين المتشدّدين الأرمن والأتراك معاً؟
… أخيراً إنه تفكيرٌ في قضيّةٍ جديرةٍ بأن تكون إحدى علاماتٍ كبيرةٍ لنهاية القرن العشرين الذي لم ينتهِ بعد! فبعض القضايا الكبيرة التي يختلط فيها القومي بالديني والتي تَشْغَل عصرَنا… تَحُوْل دون أن “ينتهي” القرن العشرون المستمر محمِّلاً إرثَه الشائك للقرن الحادي والعشرين.

السابق
مقتل قائد في الحرس الثوري الإيراني في سوريا
التالي
الراعي عاد من ’اسرائيل’ إلى بيروت