«مثقف» من هذا الزمان

تنحو الديكتاتوريات دائماً إلى تغطية صلبها الرعاعي بغطاء ثقافي تحاول به التبرؤ من ممارساتها الوضيعة وانعدام شرعيتها. وليس نادراً أن يعتلي ممثلو أجهزة القمع المنابر مقدمين أنفسهم رسل الثقافة والعلم.

علاقة الديكتاتوريات بالثقافة علاقة أداتية في غالب الأحيان. فتستخدم الأولى الثانية في إضفاء وجه إنساني على بشاعاتها ومنظومة قيمها المنحطة القائمة على العنف والإرهاب. وتدفع إلى الواجهة الإعلامية عدداً من الأسماء المرتبطة عضوياً بأجهزة السلطة وبنيتها والذين لا مكان حقيقياً لهم في عالم الثقافة من دون الارتباط هذا.

وعلى رغم الادعاءات الثقافية، تكمن السلطة الحقيقية بين أيدي قتلة دمويين أقرب ما يكونون إلى المرضى النفسيين الذين لا يقيمون وزناً للحياة البشرية. مثال على ذلك، جوزف غوبلز وزير الدعاية النازي والمتخصص – للمفارقة – في الأدب الرومانسي، وكان يؤدي دور المبرر ومخترع الذرائع لسياسة كان منفذها الحقيقي هنريش هيملر، قائد قوات الدفاع «أس أس» والمشرف على الهولوكوست. أما أندريه جدانوف صاحب نظرية «الواقعية الاشتراكية» في الفن والذي مارس سطوته على المثقفين في الاتحاد السوفياتي أثناء الحقبة الستالينية، فلم يكن غير الذراع العلني لأشخاص جاؤوا حرفياً من قيعان المجتمع ومن حقول القتل مثل غنريخ ياغودا ونيقولاي يجوف ولافرنتي بيريا. قد لا يكون الأصل الاجتماعي ودرجة التحصيل العلمي مهمة في هذا المجال (هيملر من أصول أرستقراطية بافارية، مثلاً). الأهم هو الانصياع لإملاءات آلة النظام وضروراته والتخلي عن كل فردية أو تفكير مستقل والتسليم بالصواب الكلي لآلة حكم هي في الغالب آلة موت.

وعلى رغم الاحتضان الشكلي للمثقفين في الأنظمة الشمولية، تعاني الثقافة عموماً من التصحر والموت البطيء. وتملأ بطون الكتب قصص اضطهاد كتّاب وروائيين وسينمائيين ورسامين واضطرار هؤلاء إلى الفرار خارج أوطانهم بحثاً عن واحات يستطيعون العمل فيها بحد أدنى من الحرية اللازمة للإبداع. هكذا دمرت السلطة السوفياتية المدرسة «الطليعية» في الرسم وأسكتت الروائي بولغاكوف ثم باسترناك، وضيقت على الموسيقي شوستاكوفيتش فيما فضل مؤلف البيانو اللامع رخمانينوف البقاء في منفى اختياري. وهكذا دفعت النازية مفكري «مدرسة فرانكفورت» إلى الفرار بحياتهم إلى الولايات المتحدة، واضطر واحد من أكثرهم رهافة، والتر بنيامين، إلى الانتحار عند الحدود الفرنسية – الإسبانية بعد فشله في العبور.

في عالمنا العربي، نشهد أوضاعاً مشابهة. «مثقفو» السلطة والأنظمة يحتلون الشاشات ويؤدون الأدوار المطلوبة منهم في نشر «وعي» الحكام وقيمهم، فيما يلوذ مثقفون كثر إما بالصمت طلباً للسلامة أو يُقذفون إلى الهامش الاجتماعي والإعلامي.

لكن بعض الممسكين بسوط السلطة عندنا، يرى في نفسه أهلية الإدلاء بدلوه في عالم الثقافة والفكر. فنقل عمله من المؤسسة الأمنية التي كان يقودها ويشرف على أقبية التعذيب والقتل فيها ويدير عبرها أدوات إذلال وإخضاع مجتمع بلاده، إلى تدبيج المقالات الفلسفية والجيو-سياسية والتراثية. «خواطر» وتأملات وجدانية وحكم مستوحاة من بلاغة الإمام علي بن طالب. تخرقها بين الحين والآخر شتائم وتهديدات للمعارضين، لزوم الوفاء للقائد الرمز ابن القائد الخالد.

هكذا عاد الدكتور اللواء بهجت سليمان من عمّان التي كان فيها علماً ثقافياً بارزاً بين نظراء له في معسكر الممانعة والمقاومة إلى سورية بعدما طردته السلطات الأردنية. المثقف «الكربلائي» (كما يحب أن يصف نفسه) صاحب المقالات العديدة في التحريض والاستعلاء الطائفيين، يقدم لنا النموذج الحي لمنتحل الصفة والآتي إلى الثقافة ويديه ترشحان بدماء ضحاياه. مثقف من هذا الزمان العربي الرديء.

السابق
الاستحقاق الرئاسي وديك أفلاطون
التالي
وزير الخارجية الالمان يفي مخيم للاجئين في برّ الياس