الاستحقاق الرئاسي وديك أفلاطون

كرسي الرئاسة

إذن دقّت الساعة ودُعيَ المجلس إلى انتخاب رئيس الجمهورية تكراراً، وحتى هذه الساعة لم يصل إلى نتيجة مرضية، بينما العيون شاخصة إلى الشغور في سدّة رئاسة الجمهورية، برغم وجود آلية في الدستور وُجدت لتلافيه وتمرّ بمرحلتين: 1ـ الدعوة إلى انتخاب رئيس الجمهورية. 2ـ جلسة انتخاب الرئيس.
1ـ لقد وجّه رئيس المجلس الدعوة إلى الانتخاب ضمن المهلة المحددة في الدستور. ولو لم يوجّه تلك الدعوة، لكان على المجلس أن يجتمع حكماً في اليوم العاشر الذي يسبق أجل انتهاء ولاية الرئيس. وما هذا إلا ما تقوله المادة 73 من الدستور التي تتكلم عن الدعوة إلى الانتخاب. ولقد تنبّهت رئاسة المجلس منذ العام 1982 إلى احتمال أن لا تؤدي الجلسة الأولى إلى نتيجة، ففرّقت بين الدعوة إلى الانتخاب التي توجّه مرة واحدة، وتحديد موعد الجلسة الذي قد يتكرر إذا اقتضى الأمر أكثر من جلسة.
وكان يومها أن صيغت ورقة الدعوة بالنص المدروس الآتي:
«حضرة الزميل الفاضل،
عملاً بالمادة 73 من الدستور، يُدعى مجلس النواب لانتخاب رئيس الجمهورية، على أن يلتئم في جلسة لهذه الغاية تعقد في الساعة الحادية عشرة من قبل ظهر الخميس الواقع فيه 19 آب 1982 وذلك في مقره الحالي في قصر منصور».
ومن الواضح أنه لا يبقى ثمة مجال للكلام عن انعقاد أية جلسة حكمية، إذا كان المجلس قد أصبح مؤهلاً بموجب دعوة سبق ووجهها رئيس المجلس ضمن المهلة القانونية وأصبح المجلس مؤهلاً سلفاً لانتخاب الرئيس.
الدعوة التي يوجهها رئيس المجلس هي الطلقة الأولى، أنها النفير يدقّ مرة واحدة كي يباشر المجلس العملية الانتخابية، فيعقد ما ينبغي من جلسات حتى يبلغ الهدف المنشود. وثمة سابقة في فرنسا تساعد على رسم الصورة تعود إلى الجمهورية الفرنسية الرابعة. ففي العام 1953 دُعيَ المجلسان الفرنسيان في قصر «فرساي» لانتخاب رئيس للجمهورية في اليوم والساعة المعينين لتلك الغاية. عقد المجلسان جلستهما وتابعا أعمالهما حتى توصلا إلى انتخاب الرئيس. كانت الدعوة وجهت في 17 كانون الأول 1953 في الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، فاجتمع المجلسان وتابعا اجتماعاتهما لغاية 23 كانون الأول 1953 حتى الساعة العاشرة ليلاً، قاما خلال تلك الأيام السبعة بعقد جلسات متتالية من دون أية دعوة جديدة، وبدورات عدّة من دون التوصل إلى نتيجة. حتى كانت الدورة الثالثة عشرة، ففاز «رينه كوتي» بالأكثرية المطلوبة. ولقد تم ترقيم دورات الاقتراع اعتباراً من الدورة الأولى حتى الأخيرة بالتتابع وليس اعتباراً من بدء كل جلسة.
وفي لبنان، الكل يذكر الأحداث سنة 2008 التي أدت إلى تأجيل انتخاب رئيس الجمهورية تسع عشرة مرة… ولولا مؤتمر الدوحة الذي انعقد في 21 أيار 2008 لكانت ربما بحّت مطرقة رئيس المجلس وأصابها العياء.
2ـ وتلي المرحلة الثانية، أي انتخاب الرئيس، وهي التي سال الحبر بشأنها في المحابر مدراراً، ويطول الشرح، لذا نكتفي بالآتي:
عندما أشرفت ولاية الرئيس كميل شمعون على الانتهاء سنة 1958 وخُيّل ان المجلس لن يتمكن من جمع العدد الكافي لانتخاب رئيس الجمهورية، كان ان احتدم الجدل:
ـ بين قائل بأن المادة 49 ليست مادة نصاب، وأن هذا النصاب يخضع لمبدأ عام يرعى إجمالاً اجتماع الهيئات الانتخابية، أي نصف عدد الأعضاء زائداً واحداً، وأن ما ورد في المادة 34 من الدستور ما هو إلا تطبيق لذلك المبدأ العام.
وكان أن انتحى إلى هذا الرأي الرئيس أنطوان بارود، الذي وضع دراسة بهذا الخصوص تتميز بالبحث العلمي والنصّي الدقيق. وكذلك النائب أنور الخطيب في كتابه «المجموعة الدستورية». ومعهما الدكتور ندي اميل تيان في أطروحة له بالفرنسية.
ـ وبين قائل بأن المادة 49 هي مادة نصاب، وأن هذا النصاب يتكوّن من ثلثي عدد النواب المحدد بقانون الانتخاب.
وكان ان اعتمد هذا الرأي الدكتور إدمون رباط والرئيس عبده عويدات، شاركهما في الرأي سياسيون منهم الرئيس كميل شمعون والعميد ريمون اده.
وكان بين ذينك الرأيين المتقابلين أن اعتمد مجلس النواب الرأي القائل بأن المادة 49 هي مادة نصاب، وانه لا بد لعقد الجلسة من حضور ثلثي عدد النواب المحدد في قانون الانتخاب.
وفي اعتقادي أن مجلس النواب قد انقاد إلى موقفه هذا لا من تحليل متخم لنص المادة 49 بأصله الفرنسي، أي اللغة التي صيغ بها النص سنة 1926، بل من نهج بادي الوجاهة والأهمية كان لا يبرح النواب ينتهجونه دون هوادة، فيندفعون بكثافة إلى حضور الجلسة، مغلّبين الحجة القائلة بأنه لا بد لرئيس الجمهورية من ان يتمتع بصفة تمثيلية واسعة، دعامتها انها نابعة من إرادة نيابية هي بذلك الاتساع.
3ـ أمام رأيين يقفان بهذه القوة على طرفي نقيض، يقف الباحث متسائلاً إذا وعى وتنبّه إلى العواقب التي يمكن ان يؤدي إليها تطبيق أي منهما على الصعيد العملي والممارسة.
إن الدساتير، كما يقول العلامة جورج فديل، هي أشبه بزخارف مسرح في حسابات الحاكمين وتصرفاتهم، وان سير اللعبة ليس دائماً على خط هندسي مستقيم، بل هو أشبه بطاولة بليارد يتقاذف كراتها اللاعبون.
وبالفعل، إذا اعتبرنا ان المادة 49 هي مادة نصاب، فإنما نفتح الباب لخطر تعطيل أية جلسة بحال أصرّ البعض على ان حضور الجلسة هو حق دستوري يتصرف به النائب على هواه.
وإذا اعتبرنا أن المادة 49 ليست مادة نصاب، فإنه يُخشى، في خضم الانقسامات الذي نشهدها اليوم في لبنان، من ان يصبح بمتناول مذاهب معينة، إذا اجتمعت، ان تتفرد بانتخاب رئيس من دون حضور مذاهب أخرى قد تكون منها طائفة الرئيس.
إنها فعلاً طاولة بليارد يتقاذف كراتها اللاعبون.
تحضرنا حكاية ديك أفلاطون، إذ سأله مرة تلاميذه عن معنى الحرية. فأمسك ديكاً، وبعدما قصّ جناحيه، تركه يطير. فلم يفعل الديك. فعلّق أفلاطون: هذه هي صورة الحرية.
فهل هذه هي الصورة التي شاءها الدستور وارفة الجناحين بأن جعل رئيس الجمهورية رئيساً للدولة ورمزاً لوحدة الوطن؟

السابق
احراق ست سيارات في قضاء صور
التالي
«مثقف» من هذا الزمان