أوروبا: الانزياح نحو اليمين

«إذا أرادوا تحويل ستوكهولم أو غوتنبرغ أو مالمو إلى بيروت اسكندينافية، حيث حروب العشائر وجرائم الشرف والاغتصاب الجماعي، فليفعلوا ذلك. بإمكاننا دائماً أن نضع حاجزاً على جسر أورسند (الذي يصل الدنمارك بالسويد)» (بيا كيارسغارد – مؤسسة «حزب الشعب» الدنماركي – أيار 2011).
لم يكن كلام الزعيمة اليمينية المتطرفة الوارد أعلاه آتٍ من فراغ حين نطقت به قبل ثلاثة أعوام، رداً على انتقاد السويد لنبرة حزبها العنصرية. بل جاء ليعكس الوضع الأوروبي المأزوم على أكثر من مستوى، حيث الاقتصاد يعاني من إرباكات ناتجة عن خلل بنيوي في الآليات الناظمة لسياسات الاتحاد الأوروبي، وحيث أرق الحفاظ على «الهوية الأوروبية» أو إعادة تعريفها بلغ قدراً من الإلحاح، فرضه تدفق المهاجرين وسيولة الديموغرافيا في البلدان الأوروبية بعد فتح الحدود بينها.
في انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، حاز «حزب الشعب» الدنماركي على أكثر من ربع أصوات الناخبين في بلاده. وقد جاء ذلك تلازماً مع النتائج التي حصدتها أحزاب قومية يمينية ذات نزعة شديدة التحفظ (أو الاعتراض) على إجراءات التقارب الأوروبي وشديدة النفور من الأجانب.
الأحزاب المؤيدة لسياسات التضييق على المهاجرين، والتي يعبر خطابها عن نبرة عنصرية صريحة، حازت على المركز الثاني في كل من هولندا والمجر. وهذه، كما «حزب الشعب»، أحزاب آتية من خارج «الاستابلشمنت» التقليدي للاتحاد الأوروبي (يمين وسط ويسار وسط)، ومتمردة على أدبياته الخاصة بحقوق الإنسان وسياساته القاضية بمزيد من التقارب بين بلدانه.
وقد سلطت تجمعات أقصى اليمين اعتراضها على سياسات الدمج الأوروبي والمهاجرين الوافدين من خارج القارة ومن أطرافها الشرقية، حيث تعتبر أن الأولين (الأفارقة والعرب والمسلمين تحديداً) يهددون نسيج المجتمعات الحداثية في أوروبا، فيما يضر الأخيرون (من أوروبا الشرقية) بأسواق العمل المحلية بعدما فتح الاتحاد الأوروبي أبوابه لهم.
وقد تصدرت «الجبهة الوطنية» بزعامة مارين لوبين فرنسياً، تماماً كما «حزب الشعب» في الدنمارك، بعد نيلها ربع أصوات الناخبين. والد مارين ومؤسس الحزب، جان ماري لوبن، كان قد صرح قبل شهر فقط أن «إطلاق فيروس الإيبولا على المهاجرين» من شأنه أن يخلص أوروبا منهم. وهو كلام لم يأت خارج سياق مواقفه بأي حال من الأحوال. فالرجل كان قد اعتبر سابقاً أن غرف الغاز النازية «من تفاصيل» الحرب العالمية الثانية. وهو، إذ يقدم فهمه للخطر المحدق بأوروبا اليوم، يصوب سهامه إلى «الغرباء» عنها تحديداً.
على أن صلة حزب لوبن بأدبيات النازية لا دلالة عليها، خلافاً لحزب «الفجر الذهبي» اليوناني مثلاً، وهو الذي وصل مرشحوه إلى ساحة التمثيل الأوروبي للمرة الأولى، بعدما حلوا في المرتبة الثالثة في بلادهم. وهؤلاء لا يجهدون لإخفاء ميولهم أو تلطيفها، بالرغم من نفيهم المتكرر تهمة النازية. فالنفي أضحى مع مرور الوقت مدعاة للتندر والتثبت، على اعتبار أن المتحدث باسمهم نفسه يحمل وشم «السواستيكا» على ذراعه.
وتتصل مسألة الوحدة الأوروبية بقضية الهوية، واستطراداً بأزمة المهاجرين، بشكل وثيق. إذ إن التراجع عن سياسات الانصهار الأوروبي يتغذى في العادة على نزعات وطنية شوفينية، تبني فهمها السياسي والثقافي على التمايزات والخصوصيات ونفي الصلة بـ«الآخر». فوز «حزب الاستقلال» بقيادة نيجيل فاراج بالمركز الأول في بريطانيا، مثلاً، لا يمكن إلا أن يصب في خانة سياسات الهوية والتضييق على المهاجرين، حتى لو كان تركيزه الأساس منصباً على الدعوة إلى انسحاب بلاده الفوري من الاتحاد الأوروبي.
وبالرغم من التقدم الملحوظ الذي نالته أحزاب أقصى اليمين في عدد من دول الاتحاد، إلا أن ذلك لم يخلّ بالأكثرية المريحة التي ما زالت تحظى بها أحزاب «الاستابلشمنت» الأوروبي، بيمين وسطها ويسار وسطها. كما أن الدول المعنية لم تسر جميعها على المنوال ذاته. فقد حافظت ألمانيا على صورتها كنواة صلبة للاتحاد، بفوز أحزابها التقليدية على حساب تلك المتطرفة والطارئة منها. كذلك كان الأمر في إسبانيا وإيطاليا، حيث حصد يسار الوسط في الأخيرة فوزاً كبيراً زاد عن 40 في المئة.
كما أن نسب التصويت تفاوتت بين بلد وآخر. ففي بريطانيا، مثلاً، لم تتجاوز 34 في المئة، ما يعني أن النجاح الذي حققه أقصى اليمين يعود جزئياً إلى اعتكاف القسم الأكبر من الناخبين عن ممارسة حق الاقتراع، علماً أن معدل التصويت العام في دول الاتحاد بلغ 43 في المئة.
وتهدف القوى اليمينية إلى تشكيل جبهة موحدة، تعمل على تفكيك حضور الاتحاد الأوروبي وتذويب سياساته الموجهة لدول أعضائه. وفي هذا مفارقة ليست غريبة عن سياسات اليمين الراديكالي بشكل عام، حيث «تتعاون» مجموعة من الأحزاب من أجل تثبيت «الطلاق» بينها، أي في هذه الحالة، تقليص التعاون أو فك الارتباط بين دولها.
وإنجازها اليوم يتصل بتمكنها من احتلال مساحة مرشحة للاتساع مستقبلاً. فالنتائج تعني إمكانية أكبر للتواصل مع الناخبين في الدورات المقبلة، وتوفير منبر عريض لتسويق البرامج والرؤى، ومراكمة لخبرات العمل من داخل الاتحاد الأوروبي، من أجل تقويضه أو تكبيله.
ولئن كانت النتائج أضعفت شرعية دول في الاتحاد كفرنسا، بمثل ما أضعفت شرعية الاتحاد نفسه، إلا أنها تبقى قاصرة عن إحداث تحول نوعي في سياساته. لكنها خطوة يمكن لليمين المتطرف الرهان عليها في حال انزلاق الوضع الاقتصادي إلى أسفل، أو حدوث مفاجآت أمنية تتصل بهوية المهاجرين، كما حصل إبان تفجيرات لندن ومدريد قبل أعوام.
هو انزياح محدود إذاً نحو اليمين. ما زال ظرفياً حتى اللحظة، لكن القائمين به يسعون لثتبيته.

السابق
إسرائيل تفضل الطغاة
التالي
صيدا: محاولة سرقة آثار