برج حمود: هنا يترعرع الفقر وأخواته

تمنع بلدية برج حمود منذ أيام «تجوّل الأجانب (السوريين) بين الثامنة مساء والسادسة صباحاً». أبلغتهم القرار بلافتات كبيرة، علّقت وسط شوارع المنطقة. وقد اتخذته على خلفية الإشكال «الفردي» الذي وقع يوم السبت الماضي، حين اختلف شبان من برج حمود مع شبان أكراد، فرمى أحدهم قارورة غاز أدّت إلى دخول إلياس كلش في غيبوبة.

أوقف الجيش اللبناني بعدها، وفق بيان صادر عنه، مجموعة من «الأجانب» في المنطقة «لعدم حيازتهم على أوراقهم الثبوتية». وتوالت الأخبار عن إقفال عدد من المحال التجارية التي يشغلها أكراد «ريثما يرتب أصحابها أوضاعهم القانونية في البلدية والحصول على رخصة عمل»، كما أوضح قائد شرطة برج حمود أمين لطفي، لافتاً إلى أنّ «الأمر نفسه ينطبق على المستأجرين غير القانونيين لا سيما الشبان العازبين منهم». اعتبر الأكراد أن التضييق والإجراءات «يتخذها حزب الطاشناق من خلال البلدية» نتيجة للتظاهرة التي نظموها ضدّ النظام السوري منذ نحو عشرة أيام، وأن «هناك جهات تملي التضييق على هذا الحزب».
ليس السرد استذكارا للماضي الذي حدث ذات يوم من تشرين الأول 2011، حين دار حديث عن طرد أكراد من برج حمود، ومطالبة أصحاب الشقق والمنازل بالتصريح عن أعداد المستأجرين لديهم. وحين اعتبر الأكراد أن التضييق أتى نتيجة للتظاهر ضدّ النظام السوري. هو التاريخ يعيد نفسه، لا بل هو الوضع العام للمنطقة الذي يجعل من المشاكل نفسها تتكرر.
بين الأمس واليوم، أي بين تشرين الأول 2011 وأيار 2014 سار سكان برج حمود على وقع الأحداث الأمنية والاقتصادية التي يشهدها البلد. فالمنطقة الفقيرة زاد فقرها وقد جذبت أعداداً هائلة من النازحين السوريين، بينما يتزايد أعداد العمّال الأجانب يوماً بعد يوم. يتقاسم هؤلاء المأكل والمشرب والمسكن وحتى فرص العمل. وقد استفحل الوضع إلى حدّ بات فيه كل سقف مكاناً لمبيت مجموعة من الناس، فما عادوا يفرّقون بين المنازل والمتاجر وغرف الكهرباء والمرائب.
جمعهم الفقر وما فرّق بينهم، ساواهم في سبل العيش الضيقة. ففي المشكل الشهير كانوا أرمنا وموارنة وأرثوذكسا وحتى شيعة في مواجهة الأكراد… على ذمّة أكثر من راوٍ. وهؤلاء الموحدون في هذه الحادثة لطالما أبعدتهم أحداث فردية. فتارة يختلف الشيعة مع الأرمن وتارة أخرى الموارنة مع الأكراد، وفي مرات ينقضّ سني على سوداني أو عراقي… وإذا ما انتهت الحادثة على خير يجد الدين الطريق معبّدة لتكتل مجموعة في وجه مجموعة أخرى. «لكن مثل تلك الأحداث قلما تحدث في ظلّ التنوّع الكبير والمختلط الذي تشهده المنطقة» وفق ما يقوله ابنها شاهي.

برج حمود بعد الحادثة

كان الشارع الرئيس لبرج حمود أمس شبه فارغ، حركة سير عادية تخرقها بين الحين والآخر سيارات القوى الأمنية التي تجول في شوارع المنطقة. السؤال عن أكراد يعيشون ويعملون أشبه بالسؤال عن كارلوس الشهير حين كان مطلوباً. قال فارتان، وهو بطبيعة الحال أرمنيا: «إذا كنا نعرف أحدهم لن نقول خوفاً عليهم. لي أصدقاء أكراد يشترون مني الأحذية بالجملة. يعيشون في برج حمود منذ نحو عشرين سنة، كأنهم سكان أصليون».
يعرف فارتان أن رأيه لا يشبه آراء عدد آخر من سكان المنطقة الأرمن، وهم بنظره «أقلية وزعران». هو يعتبر أن ما يروى عن برج حمود عموماً وعن الحادثة خصوصاً ليس سوى تضخيم إعلامي «لا أعرف لأي هدف». يخبر أن هناك مجموعة من الشبان الأرمن «تريد أن تستعيد أيام الحرب وأمجاد الميليشيات هي أيضاً يلزمها منع تجوّل مثلها مثل مجموعات محددة من الأكراد».
داخل شارع مرعش كانت سيّدة تبتاع الخضار سألها البائع عن السبب الذي حال دون مرافقة جارتها لها كما تجري العادة. أجابته بصوت مرتبك: «تعبانة شوي». كانت تتحدث وابنتها بلهجة غريبة عُرفت أنها الكردية، ما إن تطفل البائع مرة ثانية وسألها عن مجموعة الشباب الذين سكنوا بجوارهم. ردّت «ما بعرف أبو الياس يمكن أفضل يتركوا المنطقة لفترة».
لم تكن السيدة تريد التحدث عما يجري في برج حمود. صمتت لبعض الوقت ثم قالت: «عيب يعتبرونا كلنا مجرمين نحنا ناس منحب الشغل ومنتعب ليل نهار ومش كلنا زعران. في بيناتنا زعران متل ما في بين كل الطوائف والملل والأعراق زعران. وأنا ما قاطعت أبو الياس وبعدني بشتري من عنده الخضرا. وابنتي تعمل عند شخص أرمني ولم يعاملها غير موظفاته الأرمن». أضافت ان سكان المنطقة يدفعون ثمن «التهورات الإعلامية. لو بتسكت التلفزيونات والإذاعات والجرايد ما كان أفضل». تشير إلى إقفال بعض المحال جهارة ودون وجه حق.
عدد كبير من سكان برج حمود لا يعنيهم ما حدث، هم فقط يتحدثون عن اكتظاظ سكاني ما عاد يحتمل و«الحلّ بيد الدولة أكيد لتمنع أصحاب المنازل من إسكان العشرات داخل أمتار قليلة». وهؤلاء ليسوا فقط أرمنا بل «كوكتيل» من كل الطوائف والأعراق.
في الليل يختلف المشهد، تبدو برج حمود شبه فارغة، وكأن أيام الحرب قد عادت. «حظر التجول على الأجانب (السوريين)» كما جاء في شكل ومضمون اللافتات التي علّقت، سار تلقائياً على اللبنانيين الأرمن وغير الأرمن. يقول غريغوري أن «التجول غير مستحب إذ قد يحلو للبعض خرقه وتحدّي البلدية وأهل المنطقة».

خلفيات غير مفهومة

إذا كان السيناريو نفسه يبدأ في كل مرّة بتعدي الأكراد على الأرمن، وينتهي بحظر تجوّلهم وإقفال متاجرهم، لتعود الأمور إلى ما كانت عليه فهذا يعني حتماً أن الأسباب الكامنة وراءها هي إشكالات فردية.
يشير رئيس بلدية برج حمود أنترانيك ماصرليان إلى أنه وقّع قرار حظر التجوّل مرغماً «كنت أمانع حظر التجوّل حين وقعّت عليه مئات البلديات على اثر النزوح السوري. وأنا أعتبره مجحفاً، لكن الأحداث الفردية المتكررة التي لم تهدأ منذ سنوات جعلتنا نلجأ إلى هذا الحلّ». يلفت إلى أن العمّال يتركون منازلهم صباحاً ولا يعودون إليها الا عند المساء، وفي الغالب لا يتركونها، لكن هذا لا ينفي وقوع أحداث فردية بحاجة إلى ضبط. وهو يستنكر التهويل الإعلامي الذي ظهّر الخلاف وكأنه خلاف بين الأرمن والأكراد «علماً أن الخلاف الأخير جمع ثلاثة من الموارنة والأرثوذكس والأرمن. وهو خلاف فردي لا علاقة له لا بمجموعة الأرمن ولا بمجموعة الأكراد».
في المقابل، يطالب نائب رئيس «الجمعية الكردية» محمود سيالا بمعاقبة المخلين بالأمن ومحاسبتهم من قبل الدولة مهما كان عددهم، مستنكراً عملية حظر التجوّل وإقفال المحال وعمليات توقيف الأكراد. يقول: «لا يمكن لنحو 22 ألف كردي يعيشون في النبعة وبرج حمود والدورة دفع ثمن إشكال ارتكبه شخص او إثنان منهم»، مطالباً الدولة بتأدية الدور المطلوب منها بدل اتخاذ إجراءات عنصرية تساوي السيئ بالصالح.
يعتبر سيالا أن للأحداث المتكررة خلفيات سياسية، لافتاً النظر إلى التظاهرة التي تداعت إليها مجموعة من الأكراد ضدّ النظام السوري منذ أيام و«التي من الممكن أن تكون قد أزعجت البعض فأوعزوا بالتضييق على الأكراد جميعاً». ويدعو إلى وقف تداعيات الحادثة لأن «المرجعيات الكردية قادرة حتى الساعة على ضبط أبنائها، وهو أمر غير مضمون إن استجلب الخطأ خطأ آخر».
يروي سمير، وهو يعيش في برج حمود منذ مدة طويلة، أن «أهل المنطقة الأرمن لا يؤجرون منازلهم لغير العائلات، في حين يعمد أصحاب منازل من طوائف أخرى إلى إسكان 15 و20 شخصاً في منزل مؤلف من غرفتين، وهذا ما يؤدي إلى اكتظاظ شديد للسكان وبالتالي إلى إمكانية اكبر لحدوث مشاكل».
وإذا كان سمير يلمح إلى اختلاف وجهات النظر في عملية تأجير وإسكان العمال بين الأرمن وغيرهم من الطوائف، يشير علي جهارة إلى أن «الأرمن يستخدمون الأكراد ككبش محرقة للتضييق على المتملكين المسلمين. يتهموننا بإسكان أعداد كبيرة من العمال لكنهم فعلياً لا يمضون وقتاً طويلاً فيها كونهم يعملون من السادسة صباحاً حتى السادسة مساء. وبالتالي هم لا يشغلون المنازل إلا للنوم فقط».
يعتبر علي أنه نوع من الضغط على المالك أكثر من العمال المستأجرين، «ليفضلوا بيع أملاكهم على تأجير عائلات بمئتي دولار أو ثلاثمئة دولار بدل خمسمئة أو ستمئة دولار يجنونها من خلال تأجير عدد من العمال». وهو يؤكد أن ما يملكونه لا يصلح لسكن العائلات، لكنه يصف الأكراد بـ«الجسم اللبيس».
يخلص سمير إلى أن الوضع بحاجة إلى قبضة من حديد تضع أصحاب المنازل عند حدّهم، وتحاسب كل مخلّ بالأمن «وهم من كل الطوائف والأعراق والملل، فيوم حادثة قارورة الغاز تلاسن شباب زعموا انهم من حركة أمل مع شباب أرمن. وقد عادوا وتكاتفوا ضدّ الأكراد». برأيه لن تستوي الأمور الا حين تتوقف عمليات الرشى التي تتقاضاها القوى الأمنية وتسيّر البلدية حرّاسها في شوارع المنطقة.
ابن برج حمود لا يعترف بالفقر «هناك أصحاب مؤسسات كما هناك عمّال تتوفّر لهم الأعمال كما لغيرهم. فالمسألة ليست مسألة فقر بل زعران بحاجة ماسة إلى من يلقّنهم درساً».

السابق
فارس سعيد : نستحق رعاية الأمم المتحدة وتدويل الرئاسة وفقاً للقرار 1559
التالي
موظف اميركي ينقل عدوى إلى 5 آلاف شخص