المقاطعة والغضب الخالد

خلف المقاطعة الشاملة والمطلقة والمستمرة لإسرائيل، كتلك التي نسمع صراخها وإداناتها وهدرها للدماء… يكْمن نوع من غضب نبتَ فوقه عشب القِدَم والأيام. في بدايته، كان هذا الغضب جائزاً، تمليه المفاجأة بالتفوق الإسرائيلي الكاسح، بعد عقدين من الإنتصارية الناصرية الجارفة.

ولد هذا الغضب بعد حزيران 1967، وما زال على نبضه الأول، لم تتغير ملامحه، إلا بما ألحقه به الزمن. فمن 1967 وحتى اليوم، أي خمسة عقود وبضع سنوات، تحول هذا الغضب إلى شيء مقدس، لا تُمَس “إنجازاته”، أصحابه لهم أسبقية أخلاقية وسياسية على من دونهم من “عملاء” و”متآمرين” و”متخاذلين”؛ لهم الشرعية والمشروعية، اللتان تسمح لهم بالمطالبة بالقصاص، أي قصاص؛ غضب دخلته رطوبة العواطف التي لم تتزحزح قيد أنملة، وشراسة الغرور، ولذّة الإنقضاض على أي “فريسة”، وكلها سهلة، طالما لم تنلْ من “قاماتهم”. الغضب هذا، المطمئن إلى عواطفه المندلعة دائماً، وإلى صحة غضبه النفسية، بل النور الفكري المنبعث منه…. هذا الغضب هو الذي أسّس ودعّم فكرة المقاطعة الشاملة المطلقة، والقائمة على الشر الإسرائيلي الأبدي السرمدي. تنتصر الممانعة ضد إسرائيل نصرا تاريخيا استراتيجيا إلهيا… ولا ينتقص شيئاً من الغضب المبجّل. فالغاضبون المقاطعون همْ همْ: ما أن يسمعوا بلمسة، بنظرة، بنيّة، يكون موضوعها إسرائيل، حتى يأخذ غضبهم المنفجر دوماَ مداه، ويتعالى صراخهم ومحاججتهم ودعاويهم… كأنهم جالسون خلف تلسكوب الكوكب، يرصدون كل إشارة، سياسية، أدبية، إنسانية، اجتماعية، تضع أحد العملاء المتخاذلين على تماس ما مع إسرائيل.

 أذكر انه، في العام 2009، نُظِّمت ندوة في إحدى جامعات سان فرنسيسكو الاميركية، بين ممانع وبين قنصل إسرائيل المدينة فيها. وممانعنا المقاطع هذا، لكي يترجم موقفه السياسي أفضل ترجمة، وضع “شروطاً” على إدارة الندوة، من نوع انه سوف يجلس مع الديبلوماسي الإسرائيلي على الطاولة نفسها، ولكن بشرط أن يفصل بينهما مدير للندوة، بحيث لا يقترب القنصل الإسرائيلي منه، فيخرق بذلك مبدأ المقاطعة. وهم على الطاولة ذاتها، لم ينظر المقاطع الى الديبلوماسي، لم يوجه الكلام له، أي انه “قاطعه” بالنظر فقط؛ إذ لم يتمكن ان يسدّ أذنيه فسمعه، ولا ان يسدّ أنفه، فشمّ رائحته… أي انه “طبّع” بحواس وقاطع بحواس أخرى، وخرج فرحاً مبتهجاً يوزع اليوتيوب الذي سجله على الشبكة، معتزاً بـ”مأثرته” هذه. الى هذا المستوى من السخافة يمكن ان يصل حال المقاطعين السائدين. وما يغذي هذه السخافة ان المقاطعين، بتقاليد الغضب التي ورثوها عن أسلافهم، قد صدأت عقولهم وأغلقت قلوبهم؛ لا عاطفتهم صافية ولا ذهنهم متقِّد. كل وجهة تفكيرهم هو التبيان، بالعلم والأرقام والمراجع المحترمة ان إسرائيل إلى مزيد من الشر، وان المطبِّعين هم الشرّ الملحق، الأكثر منالاً.

   هكذا عامل المقاطعون الممانعون الحملة “الشعبية” والفايسبوكية على المطران بشارة الراعي بسبب عزمه على زيارة إسرائيل مع البابا فرانسيس الأول. لم يروا شيئاً في الزيارة، بعد القوانين اللبنانية، التي هم مستعدون ان يخالفوها في موضوعات أخرى، إلا خطيئة جسيمة، توجب الإدانة القاسية، وتتطلب “الإفراج عن وثائق البطريركية حول العلاقات التاريخية مع الحركة الصهيونية”، أو كيف “رأت البطريركية المارونية تلازماً بين المشروع الصهيوني وبين مشروع إنشاء كيان طائفي مسيحي في لبنان” (بقلم ممانعنا صاحب “المأثرة”، المشار إليه أعلاه). مقام البطريرك حماه، نسبياً، من تصاعد الحملة على تطبيعه مع العدو، وانفلات الألسن الغاضبة.

ولكن خفوت الحملة عليه عوضها المقاطعون بحملات رديفة، فكانت دعوى التطبيع التي رفعها أحدهم ضد دار نشر سعودية (دار مدارك) ترجمت كتابا إسرائيليا إلى العربية؛ أو أسهم سامة ضد أديب لبناني، إلياس خوري، ترجمت إحدى رواياته إلى العبرية ، وحاورته صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية؛ أو ضد حنين غدار، رئيسة تحرير موقع الكتروني “لبنانون ناو”، بعدما قالت في إحدى الندوات الدولية عن “حزب الله” ما نقوله كلنا، إنما هذه المرة، بعدما كان إيهود باراك قد شارك في الندوة وغادرها… إلى ما هنالك.

فالذي لم يره المقاطعون، لشدّة تحكم منظومة الغضب بتلابيب عقلهم، ان زيارة البطريرك الراعي إلى إسرائيل برفقة البابا، تدشّن مرحلة جديدة من تعامل الكنيسة الكاثوليكية مع العالم. وكان أفضل تمهيد لهذه المرحلة هو حفل تطويب بابويين، قديسين، هما البابا يوحنا بولس الثالث والعشرين والبابا يوحنا بولس الثاني،  وهما قديسان يقفان على طرفي النقيض: الأول، وكان عهده عهد انفتاح الكنيسة على العالم العلماني. فيما الثاني، بالعكس، أعاد العالم العلماني إلى الكنيسة. بهذا التطويب المزدوج، صاغ البابا فرنسيس الأول مفهومه الجديد للكنيسة، بأنها تضم العالمين، الروحي والمادي. لذلك فان زيارته لإسرائيل، ومرافقة البطريرك الراعي له، ليست دينية بالمطلق، ولا يمكن أن تكون.

إذ ينتظر الإثنان هناك كل المعضلات التي يواجهها الفلسطينيون، خصوصا المسيحيين من بينهم الذين يتعرضون للكراهية والعنصرية، للتهجير من قراهم وبيوتهم، فضلا عن مساع منظمة لفصلهم عن المسلمين، عبر قانون إلزامهم بالخدمة العسكرية. الراعي هو أول من يزور إسرائيل، وفي هذا التوقيت بالذات، مع احتدام الخطر على المسيحيين المشرقيين من كل حدب وصوب، يمكن لزيارته إلى إسرائيل أن تمنح الفلسطينيين المسيحيين قوة الدفع التي يحتاجونها بعد تصاعد هذه الأخطار عليهم في قلب إسرائيل. قد تكون للزيارة أهداف أخرى لا نعلمها؛ لكن بالتأكيد لو بقينا على درجة غضب الممانعين المقاطعين، فاننا لن نطرح الأسئلة على أنفسنا، لن نشكك بثوابتنا، لن تختلجنا الشكوك بأحقية غضبنا، وبالتالي لن نفهم شيئاً..

السابق
إحذروا تناول المنومات!
التالي
من أجل الحرية