شمس الدين: الوصاية أجهضت ’المصالحة’ في الطائف

يراجع محمد حسين شمس الدين مبادرات المصالحة الوطنية بعد انتهاء الحرب الأهلية:
«في مدى ربع قرن (1989 2014) جرت مبادرتان اساسيتان ومحاولة ثالثة للمصالحة الوطنية اللبنانية بعد الحرب، بما هي المصالحة في العمق والمرتجى طيُّ صفحة النزاع القاتل، تمهيداً لاستعادة لبنان عافيته، كياناً ومعنى ودوراً. على هذا يكون القصد، قصدُنا ههنا، مصالحةً تأسيسية يُبنى عليها مستقبل واثق، لا استراحةَ محارب ولا تفاهماً موقتاً يفرضه ميزان قوى معيّن ليُلغيه ميزان آخر.أولى المبادرات وأهمها على الاطلاق، اتفاق الطائف الذي وضع حداً للحرب الأهلية، وإن لم يضع حداً لحروب اقليمية أخرى على أرض لبنان، كما تبيَّن لاحقاً وسريعاً. أهمية هذه المبادرة نابعةٌ من كونها منصفة رغم كل ما قيل ذمّاً فيها واستنكافاً عنها من قِبَل البعض كما هي نابعة من تجسّدها في دستور وميثاق مجوَّدَين: دستور أكثر توازناً لجهة الشراكة، مفتوح على تحرير الدولة من قيد الطائفية ذات الريوع الزبائنية، وميثاق مكتوب جعل من التزام العيش المشترك معيار شرعية السلطة، فضلاً عن مصدرها المعيَّن أصلاً وعلى أي حال (الشعب).
وفي تقديرنا ان هذا التجويد لم ينل من الطبيعة الأصلية للعقد الوطني، بل أكدها وزادها بهاءً، بحيث بدت «ni tout a fait la meme, ni tout a fait une autre«. أما أنّها كانت مبادرة ممكنة في حينه، فذاك يعود إلى تضافر عوامل ثلاثة: أوّلها انكشاف عبثية الحرب أمام عيون المتحاربين اللبنانيين أنفسهم، وأنه لا رجاء فيها لأيّ منهم، بصرف النظر عمّا زيّنت لهم نفوسهم من أوهام في مواقف العنتريّات الزجلية. ثاني العوامل وجود ريح اقليمية ودولية مؤاتية آنذاك، إذْ كانت قوات منظمة التحرير الفلسطينية قد غادرت لبنان، كما أنّ العام نفسه (1989) شهد سقوط جدار برلين. ثالث العوامل المتضافرة نهوض «العقل اللبناني التسووي» والتسوية مفهوم نبيل وتقدمي لو تعلمون بصياغة وثيقة الوفاق وبهندسة روحها. ونحن هنا إنما نتحدث عن الاتفاق بنصّه وفلسفته، لا عن التفسير السوري الذي أُسقط عليه لاحقاً، فجعل من ميليشيا طائفية بعينها مقاومةً وحيدة، دائمةً إلى ما شاء ربُّها السوري الإيراني، كما جعل من الدولة اللبنانية مشروعاً معلّقاً، ومن الوصاية شرطاً لعدم العودة إلى الحرب!«. ويستدرك: «معلومٌ أنّ تلك المصالحة التاريخية قد تمَّ وأدُها على يد سلطة الوصاية، بسياستها المشار إليها أعلاه. نجم عن ذلك خمس عشرة سنة إضافية (1990 2005) من حرب لبنانية «باردة»، قابلة للاشتعال في أي لحظة، مرعيَّة سورياً، مع «تطنيش» إقليمي ودولي.
وفي ظلّ تخريب منهجيّ للمعنى اللبناني، بحيث «وُصف لبنان خلال تلك السنوات بالبلد المحتضر»، بحسب عبارة المجمع البطريركي الماروني (2006). هذا رغم الجهد الإحيائي الكبير الذي بذله رفيق الحريري في ورشة إعادة البناء وتأهيل الحياة اللبنانية لملاقاة فكرة السلام الدائم، ورغم «المقاومة بالوصل والتواصل في ما بين اللبنانيين» التي اضطلعت بها نخبٌ ثقافية وسياسية واجتماعية، على رأسها مرجعيات روحية آمنت بهذا اللبنان، ولا سيما البطريركية المارونية اعتباراً من العام 2000 بصورة خاصة. سنوات المهانة والقهر تلك تمخّضت بفضل نهج وصلٍ دؤوب وشجاعات وطنية جديرة بالاحترام عن مصالحة شعبية فاقت كل تصوّر وحُسبان، وتجسّدت بانتفاضة الاستقلال في آذار 2005. لعلّ خير توصيف لتلك اللحظة ما جاء في بعض نصوص المجمع الماروني: «… وشكّلت انتفاضة الاستقلال، اثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري، لحظة تاريخية فتحت الباب للخلاص الوطني بتوحُّد غالبية الشعب اللبناني على نحو غير مسبوق». وعندما تقول الكنيسة المارونية «على نحو غير مسبوق»، فهي تدري ما تقول، لأنّها عليمة بواقع هذا الشعب وتاريخه، أو لأنّها كما وصفت نفسها عن حقّ «كنيسة خبيرة بالعيش المشترك، مثلما الكنيسة الرسولية الجامعة خبيرة بالسلام العالمي». بطبيعة الحال ليس لنا أن نتجاهل العامل الدولي المساعد آنذاك، والمتمثّل بنضج موقف يحتّم على النظام السوري الانكفاء إلى داخل بلده فلا يبقى فائضاً عن حدوده (فحوى القرار 1559).
ولما كان ذاك الموقف الدولي يفتقر إلى الوسائل السريعة والناجعة، فقد تمثّل العامل الحاسم بتصميم غالبية الشعب اللبناني على نيل الاستقلال، الآن وهنا، بالتوحُّد. من الأدلّة الناطقة بذلك، أنّ قيادة الرأي العام الاستقلالي رفضت في حينه الاستماع إلى «نصيحة» دولية واقليمية تدعوها إلى «دفْن الفقيد، وتقبُّل التعازي، والتريُّث…»! مرّة جديدة شنّ النظامان السوري والإيراني، رغم انسحاب القوّات السورية، حرباً دامية (سلسلة اغتيالات لا نظير لها في أي بلد، وحرب تموز 2006…) لوأد المصالحة اللبنانية، أو لإبطال مفعولها البديهي. كيف؟ بمنع قيام الدولة. يجدر القول هنا إنّ القوى الاستقلالية بعد انسحاب القوات السورية واستلام المحكمة الدولية قضية اغتيال الحريري نطقت بجملة مفيدة، وقلّما فعلت بعد ذلك. تلك الجملة تلخّص المآل الطبيعي والضروري للمصالحة الوطنية الباهرة، ألا وهو «العبور إلى الدولة». لم يحدث ذلك العبور. بدلاً عنه صعدت «المقاومة» إلى متن البيانات الوزارية، بفضل اتفاق الدوحة (شتَّانَ ما بين الدوحة والطائف!)، كما بات التهديد هذه المرّة ليس بحرب طائفية.
السابق
مصر والحاجة إلى دولة ثالثة..
التالي
تعرفة الاتصالات الجديدة في لبنان: لا جديد و«كلّو حكي جرايد»