سرقة المال العام بالوقائع والأرقام

 

أخطر ما كشفته النقاشات في ملف سلسلة الرتب والرواتب، لا يتعلق بالعقم السياسي، والمزايدات الفارغة، وغياب المسؤولية لدى المسؤولين فحسب، بل أن الأخطر من كل ذلك، هو فقدان الحياء الاخلاقي، بحيث صار الكلام عن سرقة وهدر المال العام، من المواضيع العادية التي يتحدث فيها «المسؤول»، وكأنها من المسلمات المسموح تحويلها الى مادة مطروحة لتمويل زيادة الرواتب وتصحيح الدرجات.

تشير أرقام الاقتصاد، الى حقيقة صادمة، أو هكذا يُفترض، مفادها ان خفض منسوب سرقة المال العام، وإغلاق مزاريب الاستيلاء على جزء من حقوق الدولة في المرفأ، ووضع حد لرمي الأموال في بالوعة الكهرباء، يمكن أن يؤمّن للخزينة، ومن دون أي جهد ضرائبي او اقتصادي ناتج عن زيادة حجم الاقتصاد الوطني، ما يُقدّر بحوالي 3.5 مليار دولار سنويا، منها حوالي المليارين ظاهرة في دفاتر دعم قطاع الكهرباء، وما تبقى شبه ظاهر، ولو بطريقة غير رسمية في نتائج المداخيل الجمركية، وفي مظاهر الثراء السياسي والوظيفي في القطاع العام.

في الواقع، تُبرز أرقام «مؤسسة التمويل الدولية» (IIF) أن مجموع الانفاق العام في الدولة ارتفع من حوالي 17 الف مليار ليرة عام 2010 الى اكثر من 21 الف مليار عام 2013. ومع حسم الزيادات في الانفاق التي طرأت من خلال الزيادات في الرواتب، يتبيّن ان هناك زيادة في الانفاق تقارب المليارين ونصف مليار دولار كحد أدنى. ومع غياب الانفاق الاستثماري، يقود هذا التفاوت في الارقام الى الاستنتاج بأن قسما من هذا المبلغ الاضافي فرضه ضغط النازحين السوريين، والقسم المتبقي والذي يُقدّر بحوالي مليار او اكثر تمّ هدره وسرقة نسبة مرتفعة منه.

أكثر من ذلك، تبيّن الأرقام، أن ميزان المدفوعات الأولي في الخزينة سجل فائضا عام 2011 قدره 2500 مليار ليرة (حوالي مليار ونصف مليار دولار)، مقابل عجز بلغ حوالي 1690 مليار ليرة (حوالي مليار و130 مليون دولار) عام 2013. أي أن الحسابات العامة للدولة، تُظهر ان الخزينة فقدت بين 2011 و2013، ما مجموعه مليارين و600 مليون دولار. مع الاشارة الى ان ايرادات الدولة كان يُفترض أن ترتفع قياسا بحجم تطور حركة الاستيراد والتصدير، فيما لو كانت الايرادات الجمركية دقيقة ولا تخضع للسرقة والنفوذ الحزبي الذي يخطف من امام الخزينة مبالغ باهظة.

هذه الحقائق تقود الى واقع مفاده ان وقف سياسة دعم الكهرباء، والعودة عن الانفاق الاضافي غير المبرّر في السنتين الأخيرتين، يمكن ان يؤمّن وفراً للخزينة يصل الى حوالي ثلاثة مليارات ونصف المليار دولار، وهو المبلغ الذي يوازي تقريبا ما تدفعه الدولة سنويا لخدمة الدين العام الذي تجاوز الـ63 مليار دولار.

وبالتالي، ما تقوله هيئة التنسيق النقابية في شأن تمويل سلسلة الرتب والرواتب من خلال وقف الهدر والسرقة، دقيق، من دون احتساب وقف دعم قطاع الكهرباء. لكن، ما هو غير منطقي في هذا الطرح، هو أن محاولة وقف الهدر لا يُفترض أن ترتبط بتمويل السلسلة، ولا بأي حاجة أخرى، بل يُفترض أن يتحول الى هدف قائم بذاته، سواء كان هناك سلسلة، ام لا.

الواقع المرير في هذه المعادلة، أن جهداً بسيطا من قبل الحكومة، يستطيع أن يجمّد نمو الدين العام، بانتظار أن تتوفّر المناخات الملائمة لاستعادة مسيرة النمو الاقتصادي، والذي يتكفل بتقليص حجم الدين العام مع الوقت. خصوصا أن هذا الهدف مُتاح، بدليل النتائج التي تحققت في خلال الأعوام 2008، 2009، و2010، حيث وصل الفائض الاولي الى ما نسبته 5.3% من حجم الناتج المحلي، في حين تراجع عام 2013 الى ناقص 2.5%، بما يعني تراجعاً بلغت نسبته 7.8%، وهي نسبة مرتفعة تستطيع أن تغيّر الكثير في المعادلات الاقتصادية في الدول.

الى ذلك، هناك نقطة لا يتم تسليط الضوء عليها بما يكفي، تتعلّق بكلفة خدمة الدين العام. إذ، ورغم الارتفاع المستمر في حجم الدين العام، ظلّ الاقتصاد الوطني في دائرة الآمان بفضل أمرين:

أولا- خفض معدل أسعار الفوائد التي يدفعها لبنان على دينه. وهذا الأمر تمّ بفضل سياسة حاكم مصرف لبنان الحكيمة، وبفضل واقع الدين العام نفسه، على اعتبار ان المصارف هي من يموّل القسم الاكبر من هذا الدين، وبفضل الصدفة، لأن أسعار الفوائد العالمية تراجعت الى مستويات دنيا وصلت أحيانا في بعض البلدان الى صفر في المئة.

ثانيا – النمو الاقتصادي في السنوات 2008، 2009 و2010، والذي ساهم في خفض نسبة الفوائد على الناتج المحلي. وقد تراجعت هذه النسبة من 12.7% عام 2007، الى 8.2% عام 2012.

لكن هذا الوضع قد لا يستمر على هذا النحو في السنتين المقبلتين، وقد تشهد كلفة الدين العام قفزات دراماتيكية سوف يشعر بها الجميع، وستُدخل الاقتصاد في دائرة الخطر، وسيكون الوضع مختلفا تماما عن السنوات الماضية.

من هنا، تبدو الحكومة امام امتحان صعب. والمطلوب اليوم قرار بوقف النزف فورا، لأن الظروف التي سمحت بتغطية نسبية لما كان يجري في السنوات الماضية، قد لا تكون متوفرة في الايام المقبلة. وقد يذوب الثلج ويظهر المرج، بكل ما فيه من ويلات كانت شبه مغطاة حتى اليوم.

 

السابق
زراعة السليكون فى الثدي والأمراض التي تنتج بسببه
التالي
الحب لشخصين في آن واحد.. معقول؟