ما أجمل النكبة!

لم يسبق لفلسطين أن عاشت نكبتها وحيدة ومنسية كما حصل هذه السنة. مرّ خبر قتل إسرائيل لشابين فلسطينيين بالرصاص الحي وإصابة 13 آخرين، في رام الله أثناء إحياء الذكرى، عابرا وهامشيا، في نشرات ملطخة بدماء مئات العرب الآخرين. لا معنى للتذكير بمجازر إسرائيل وجرائمها حين تكون المجازر العربية البينية، والسيارات المفخخة، والمعارك الأهلية، خبرا يوميا. لا متسع للحديث عن ضياع فلسطين، لحظة يكون السودان مقسما، وسوريا ممزقة، والعراق متشظيا، وليبيا مجزأة، واليمن ولبنان يترنحان. ضاق الواقع العربي بمآسيه فلم يبقَ لفلسطين، هذه المرة، غير العالم الافتراضي مكانا لاستعادة الذكرى. خرجت على مواقع التواصل الاجتماعي، صور النازحين، وخيام اللجوء، ومفاتيح البيوت العتيقة، ووثائق الملكيات المسلوبة، والهويات التي مات أصحابها قهرا وانتظارا، وبضع معلومات تاريخية مؤلمة، من بينها أن الجيوش العربية السبعة التي حاولت استعادة فلسطين، بعد النكبة، لم تبلغ أكثر من 24 ألف جندي، أي ما لا يتجاوز ثلث أعداد الجنود الإسرائيليين، في تلك الحقبة.
تأتي الذكرى الـ66 لضياع فلسطين، ونتنياهو يريد أن يحقق شهوته بإعلان دولة يهودية، وأميركا تنكفئ على مفاوضات لم يعد لها أفق، بعد عشرين سنة من الحكي، فيما الاستيطان ينمو كما عشب بري هائج يأكل الأراضي ويحاصر من تبقى من أصحابها. بقعتان مضيئتان فقط، وسط هذا الدخان الأسود الذي يحجب بكثافته كل أمل. المصالحة الداخلية بين فتح وحماس، مع أنها لا تجد من يساندها، بل تهدد أميركا بإيقاف المساعدات في حال تشكيل حكومة وفاق وطني. أما بقعة الضوء الثانية، فهي نمو الفلسطينيين ديموغرافيًا، ثمانية أضعاف عددهم يوم النكبة. فقد كان في فلسطين حين اغتصابها مليون و400 ألف نسمة، هاجر منهم 800 ألف، ومع ذلك، يقطن فلسطين التاريخية اليوم ما يقارب ستة ملايين فلسطيني، أي ما يوازي عدد اليهود، ويتوقع أن يصل العدد إلى سبعة ملايين بحلول عام 2020. أصوات ترتفع داخل إسرائيل تحذر من أن التهرب من حل الدولتين، سيجعل قيام الدولة الواحدة ثنائية القومية أمرا واقعا بعد سنوات، وهو ما يجعل إسرائيل في الأعوام المقبلة أمام خيارين كلاهما مر؛ فإما القبول بالدولة الواحدة، مما يناقض المبدأ العنصري الديني الذي قامت على أساسه، أو أن تتحول إلى دولة تمييز عنصري منبوذة، على غرار ما حصل في جنوب أفريقيا. ليست إسرائيل إذن، في أحسن أحوالها رغم النمو الاقتصادي، والنشاط التكنولوجي الذي يستر المعايب، فمستوى الفقر مرتفع، والأجور متدنية، والتصنيف الائتماني للشيقل يتراجع، كما أن موازين القوى المتغيرة في العالم ليست لصالحها. قوة إسرائيل منذ البدء تأتت من ضعف جيرانها، وقلة حيلتهم، وشدة انبهارهم بقوتها العسكرية، وعدم وعيهم لحقيقة أن الحروب لها وجوه آخرها الصراع العسكري.
للتذكير فإن القوات البريطانية دخلت القدس عام 1917 قبل عام من انتهاء الحرب العالمية الأولى التي كانت نكبة فلسطين في صميم أحداثها، هذه الحرب يتم الاحتفال بذكرى مئويتها في أوروبا والغرب بأسره طوال هذه السنة، احتفاليات لا علاقة لها بالأساليب العربية الاستعراضية والسطحية. ثمة عملية تشريح دقيقة لتلك المرحلة، كل يعمل في نطاق اختصاصه، لإعادة قراءة الأحداث، ولا يستثنى الطلاب من المهمة، المدارس الفرنسية حتى في لبنان، منخرطة في العمل: بحث، قراءة تاريخية، تحليل، غوص في الكتابات الأدبية حول الحرب، بناء نصوص مسرحية ووضعها على الخشبة، نبش في الوثائقيات. الصحف هي أيضا مستنفرة، لتعريف قرائها بوقائع لا بد فاتتهم، وللكشف عن أحداث لم تكن معروفة. المجتمعات التي مستها الحرب كلها معنية: «باستخلاص العبر» كما قال الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، في خطابه الطويل والبديع في هذه المناسبة الذي عكس معنى أن تعرف الأمم ما تريد لنفسها، وكيف تستفيد من كوارثها، فآثار هذه الحرب، حسبما يرى «لا تزال تحفر في حياة كل عائلة، كما التراث، يجب أن نعاود فتحه واكتشافه في كل مرة». لم يكن العرب طرفا عسكريا في الحرب العالمية الأولى، ولا يوجد سبب وجيه يدفعنا لأن ننبش في صفحاتنا، لنعرف ما كان يكابده الجنود، وما فحوى الرسائل التي كانوا يتناقلونها، وكيف أكل المدنيون الفئران والقطط حين كان يشتد الحصار. لكن من رحم هذه الحرب ولدت اتفاقية «سايكس بيكو» (1916). التي رسمت خرائطنا، وشكلت حدود أوطاننا وجزءا عصيا من مأساتنا الحاضرة، ومن صميمها أيضا، خرج وعد بلفور عام 1917.
بمعنى آخر، تركت هذه الحرب في كل نفس عربية ندوبا وجروحا، وغموضا يكتنف هوية سكان أهل المنطقة التي قسمها وتقاسمها الغرب ذات يوم، ولا يزال يرى فيها شيئا من ملكياته الأثيرة، مما يعطيه الحق في التلاعب بها، ما دام أهلها غافلين.
وبالتالي، فإن تذكر النكبة أمر لا يخص الفلسطينيين وحدهم، كما بات يعتقد البعض. تماما، كما أن إعادة قراءة الحرب العالمية الأولى من قبل كل مواطن، بدءا بالتلامذة حتى رئيس الجمهورية كما يفعل الفرنسيون، واجب عربي تجاه الذات أولا، ومن أجل فهم خلفيات هوسنا الجنوني بالتناحر، قبل أي اعتبار آخر. ولعل عالم الاجتماع الفرنسي المعروف، المتخصص في ظاهرة الحرب، غاستون بوتول، يقدم لنا إجابة أولية بقوله إن «الحرب لا تحتاج سوى الحد الأدنى من الجهد الذهني، تحل بعض المشاكل المزعجة، وتعفيك من التفكير الجدي في إيجاد حلول حقيقية للمشاكل الأكثر جذرية وعمقا».

السابق
حزب الله يُكمل دائرة الفراغ!
التالي
كاترينا لأردوغان