3 سيناريوهات للنظام العالمي الجديد

تطرقنا في الحلقة السادسة من هذه السلسلة إلى استراتيجية الأتحاد الأوروبي. في الحلقة التالية ماقبل الأخيرة، سنتناول آفاق النظام العالمي الجديد.

ثمة إجماع، الآن، أو على الأقل شبه إجماع، بأن رحلة القطبية الأحادية الأميركية وصلت إلى خواتيمها. لكن ما لم يحز على إجماع هو شكل النظام العالمي البديل الذي سيحل مكان القطبية الأحادية.
هنا يمكن رصد ثلاثة إجتهادات:
الأول، يرى أن التطورات الأخيرة وعلى الرغم من أنها كشفت حدود دور الزعامة الأميركية، إلا أنها لن تغيّر في هذه المرحلة على الأقل من طبيعة النظام العالمي.
والثاني، يرى أن التغيير سيكون حتمياً بحكم صعود البريكس وبقية السرب الآسيوي إلى قمرة القيادة العالمية.
والثالث لايرى لا هذا ولا ذاك، بل يتوقع بروز “لاقطبية فوضوية” مكان القطبية الأحادية.
أي الإجتهادات الأقرب إلى الحقيقة؟

الاجتهاد الأول
سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. قبل ذلك فلنحاول مقاربة كل إجتهاد على حدة.
الإجتهاد الأول يرى أن صفحة الحربين العالميتين الثانية والباردة (1945-1995) طويت. وفى المرحلة الحالية يتم (على رغم كل الظواهر المعاكسة والأزمات الاقتصادية في الغرب) تنفيذ المشروع الإمبراطوري الجماعى لـ”الثالوث الامبريالي (الولايات المتحدة ـ أوروبا ـ اليابان)، الذي يلغي استقلال بلدان الجنوب، من جهة، ويقلًص بشدة بنفوذ شركاء واشنطن فى هذا الثالوث، من جهة اخرى.
هذه المرحلة الحالية تتسم في العمق بمواصلة تنفيذ مشروع أميركي شمالي للهيمنة على الصعيد العالمي. ويحتل هذا المشروع وحده اليوم المسرح بأكمله. فلا توجد خطة مضادة له، كما كان الحال فى فترة الثنائية القطبية (1945-1990). فالمشروع الأوروبى دخل فى مرحلة التلاشي؛ وبلدان الجنوب (مجموعة الـ57، ودول عدم الانحياز) التى كانت تطمح أثناء فترة باندونغ (1955-1975) لأن تواجه الغرب فى جبهة مشتركة، تخلت عن مشروعها. والصين نفسها، التى تعد فارساً وحيداً، ليس لها أى طموحات استراتيجية في الحقبة الحالية سوى حماية مشروعها القومى (وهو نفسه ملتبس من جهة أخرى) ولا تطرح نفسها شريكاً فى صياغة العالم.

” الإمبريالية الجماعية” للثالوث ( التعبير من إختراع المفكر سمير أمين)، هو نتاج تطور واقعى للنظام الإنتاجي للمراكز الرأسمالية التى لم تُنتج في الواقع رأس مال “عابر للقوميات”، بل أنتجت تضامناً بين احتكارات الأقليات القومية (مقارنة بقوميات بقية العالم) في مراكز النظام، والذى يعبَرون عن اهتمامهم فى أن “يديروا معاً” ولفائدتهم، العالم بأسره.

لكن، إذا ما كان “الاقتصاد” يقرّب بين الثالوث، فإن السياسة تفرّق بين أممه. ولذلك، إحتمال اندلاع الصراعات الاجتماعية يمكنه حينئذ أن يطيح بالدور الذى تؤديه الدولة فى الاقتصار على خدمة رأس المال الكبير وخصوصاً فى أوروبا. وفى إطار هذه الفرضية، ربما نرى نشأة تعددية مراكز من جديد في النظام العالمي.

لكن يبقى أن تنفيذ “المشروع الأوروبى” كما هو الآن لايمضى فى هذا الاتجاه الضروري لكبح التفرد الأميركي. ففي حقيقة الأمر هذا المشروع ليس إلا “الشطر الأوروبى من المشروع الأميركي”. وعلى سبيل المثال، الدستور الاوروبي هو مشروع أوروبا التى تستقر على اختيارها المزدوج النيو ليبرالى والأطلسي.

روسيا والصين وإلى حد ما الهند هم الخصوم الاستراتيجيون لمشروع واشنطن. لكن يبدو أن قادة هذه الدول يعتقدون أن بإمكانهم المناورة بدون الاصطدام بأميركا. لا بل هم يسعون للاستفادة من صداقة الولايات المتحدة فى الصراعات الناشبة بين بعضهم البعض. “الجبهة المشتركة ضد الإرهاب” التى يبدو أنهم يندرجون تحتها تخلط الأوراق، ولعبة واشنطن المزدوجة هنا هي مثلاً: مساندة الشيشان وسكان التبت (كما تساند أميركا بعض الحركات الإسلامية فى الجزائر ومصر وغيرها)، من جهة، والتلويح براية “الإرهاب الإسلامي” لجذب موسكو ودلهي وبكين إليها، من جهة اخرى. هذه اللعبة المزدوجة، تعمل بكفاءة حتى اليوم على الأقل.

والحصيلة؟

إنها واضحة بالنسبة لهذا الإجتهاد: الهيمنة الاميركية ستستمر طالما لم يتم التحالف، أو على الأقل التقارب، بين العمالقة الأوروبيين والآسيويين (أوروبا، روسيا، الصين، الهند)، وطالما لم يجذب هذا التحالف إليه باقي دول آسيا وأفريقيا إليه ليعزل أميركا. وطالما أيضاً لم يحدث كساد اقتصادي كبير في الولايات المتحدة وفق أنموذج العام 1929.

الاجتهاد الثاني
الإجتهاد الثاني يتلمس بروز نظام تعددي قطبي جديد يستند إلى محور أميركي- صيني.
نعوم تشومسكي، المفكر اليساري الأميركي البارز، أحد أبرز المتنبئين بهذا التطور، وهو ألمح مراراً إلى أن النظام العالمي الجديد سينمو على ضفاف المحيط الهادئ وسيقذف بأوروبا، التي قادت الحضارة الغربية على مدى القرون الخمسة الماضية، إلى أعماق المحيط الأطلسي.
على المدى البعيد، يبدو هذا التحليل دقيقاً. لكن في العقود القليلة المقبلة ستبقى أوروبا أحد المحاور الرئيسة في النظام العالمي، وستشكل مع أميركا(ومعها اليابان) والصين مثلثاً إستراتيجياً يحدد العديد من سمات النظام العالمي.
فكما أن أميركا تمتلك تفوقاً عسكرياً لايضارع، وكما أن الصين ستكون خلال عشر سنوات قوة كبرى إقتصادية وعسكرية من الدرجة الاولى، كذلك ستبقى أوروبا عملاقاً إقتصادياً لا غنى عنه لإدارة شؤون العالم وتزيتت موتوره بأموالها وإستثماراتها.
الأجدى أن يقال، بالتالي، ان هذه القوى القارية الثلاث، ستمتلك بشكل متزايد الكتلة الرئيس للقوة الأقتصادية والعالمية، إضافة إلى سيطرتها على بؤرة النفوذ السياسي والأستراتيجي. وإذا ما وضعنا في الاعتبار الوزن الأستراتيجي والسياسي والأقتصادي المشترك لهؤلاء اللاعبين الثلاثة على المسرح العالمي اليوم، سندرك لماذا يتعين على أصحاب القرار والمحللين إبداء إهتمام أكبر بالتفاعلات بين أطراف هذا المثلث الاستراتيجي.
لكن كيف؟
يوضح الباحث الأميركي ديفيد شامبوخ أنه مع إنغماس الصين اكثر في النظام العالمي، ينتظر أن تتفاعل أوروبا وأميركا بشكل متزايد معها حيال تحديات كبرى مثل الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل وتغير المناخ والهجرة وغيرها من العقبات التي ستواجه النظام العالمي الجديد .
ومع ذلك، يبدو واضحاً أن مصالح الأطراف الثلاثة ستفترق في مجالات أخرى. فالخلافات، مثلاً، حول رفع حظر الأسلحة الاوروبي عن الصين، يكشف المنظور المتباين الذي تطل منه أوروبا وأميركا على مسألة صعود بكين. هذا لايعني أنه ليس هناك قواسم مشتركة بين الطرفين حيال كيفية التعاطي مع هذه الاخيرة ، لكن من المهم في الوقت ذاته إدراك الأختلافات. فلو كان لأوروبا، أية مصالح إستراتيجية مهمة في شرق آسيا، او كانت ملتزمة بضمان أمن تايوان، فإنها ستكون على الارجح أقل إندفاعاً لرفع الحظر.
لدى أوروبا واميركا، من جانب آخر، رغبة مشتركة في تحسين وضعية الصين على الطاولة الدولية وتوسيع مسؤوليتها في النظام العالمي. كلاهما يريد الصين دولة امر واقع لا دولة ثورية مُراجعة، وهما مقتنعان بأن إدماج الصين أكثر في المؤسسات الدولية قد يساعد على ضمان هذه النتيجة عبر “تعويد الصين إجتماعياً” على معايير السلوك الدولي. وهكذا رحبت اوروبا وأميركا بالانغماس الصيني المتزايد والبناء في النظام الدولي. لا بل الواقع ان هذه الفرضية قادت السياسات الأوروبية والأميركية نحو الصين على الأقل منذ حقبة الثمانينات .
ويعيد الباحث شامبوخ إلى الأذهان أنه في العام 1968، جادل الرئيس نيكسون بأن الصين، التي تعيش في عزلة دولية، ستشكّل عامل لاإستقرار للأسرة الدولية في حال بقيت في عزلتها. وهذا مادفعه إلى الأنفتاح عليها في العام 1972. والرئيسان جيمي كارتر ورونالد ريغان شاطرا نيكسون هذه الفكرة. ولعل الرئيس جورج بوش الأب كان من اكثر المتحمسين للانفتاح على الصين، لكن أحداث تيان آن مين العام 1989 منعته من تحقيق رؤيته. وإدارة كلينتون تبنت هذه الاستراتيجية في ولايتها الثانية وإختتمت بنجاح مفاوضات إنضمام الصين إلى منظمة التجارةالعالمية. وحتى إدارة بوش الأبن، التي لم يعرف عنها حماستها للمؤسسات الدولية، جادلت دوماً ان الصين في حاجة للعمل بشكل بناء من داخل هذه الكيانات.
أوروبا أيضاً آمنت بحكمة ضم الصين إلى النظام المؤسساتي العالمي، وربما أكثر من الولايات المتحدة. وهذا نابع من قناعة الاوروبيين بأن الدول الكبرى يجب ان يكون لها موازن أو معادل، لأن العالم متعدد الأقطاب أكثر استقراراً من النظام أحادي القطبية او من النظام الفوضوي ، ولأن الدول يجب ان تلتزم بالقانون الدولي المحدد لقواعد السلوك، وبأن السيادة لها حدودها وهي يمكن ان تكون سيادة مشتركة.
المثلث الإستراتيجي الأميركي- الأوروبي- الصيني، إذاً، سيحكم العالم على الأقل خلال العقود الثلاثة المقبلة. لكن كيف؟
ربما نكون هنا على موعد مع نظام عالمي غير مسبوق، لا يشبه بشيء المثلث الإستراتيجي السوفييتي- الأوروبي- الأميركي القديم خلال الحرب الباردة، ولا كل أشكال التحالفات بين الدول الكبرى التي أقامها مترنيخ في القرن التاسع عشر.
المثلث الجديد لن يكون (حتى إشعار آخر) لا تحالفاً ولا تصادماً. لا وفاقاً كاملاً ولا حرباً أهلية كاملة. إنه سيتذبذب في كل فترة بين كل هذه الثنائيات المتناقضة، تبعاً لطبيعة القضايا والمصالح التي ستواجهه. وهكذا، يمكن في حين ان تتفق أميركا واوروبا ضد الصين حيال إيران، كما يمكن في حين آخر أن تتفق الصين وأوروبا ضد أميركا في مسائل التسلح، أو التعددية القطبية، او الصراع على الموارد الطبيعية في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا الوسطى.
وهذا مايدفعنا إلى التساؤل عن طبيعة الاختلافات بين النظامين العالميين القديم والجديد.

السابق
أبو يزن: عجائب النضال المتعدّدة… والتقاعد السويدي
التالي
باب الحوار مفتوح