الثورة والاستعصاء الثوري في سورية

1

الثورة السورية في مأزق؟ لا شك في ذلك، وهذا ما فرض نشوء استعصاءٍ، يدفع الأمور إلى صراعٍ دمويٍّ مدمرّ، من دون أفق كما يبدو. ربما هذا ما كانت تريد الدول “الخارجية” (الغربية والشرقية) الوصول إليه، لكي يظهر فشل الثورة، لكن، أيضاً، لكي يزداد الدمار، كما يريد بعضها، وأقصد الإمبريالية الأميركية.
ما أوصل إلى ذلك عنصران، الأول: نجاح سياسة السلطة بإظهار الثورة كحراك “سنيّ” (وإخواني يريد الانتقام مما حدث سنة 1980 في الصراع بين السلطة وجماعة الإخوان المسلمين)، من خلال سياسات قوى معارضة، ودول إقليمية ودولية، كانت تريد أن تظهر الثورة كذلك، لأن قوى المعارضة تلك كانت تراهن على تدخل “خارجي”. وبالتالي، كانت في غنىً عن الأقليات (خصوصاً أَنها تحمل أحقاداً ضدها)، ولأن الدول الإقليمية كانت تريد إفشال الثورة، وتحويلها إلى صراع طائفي (أو يبدو كذلك)، والقوى الإمبريالية التي تريد التدمير والتفكيك، وليس انتصار الثورة. وكان هدف السلطة من ذلك ضمان تماسك “الأقليات” خلفها، خصوصاً العلويين، نتيجة أنها شكلت قوتها القمعية الصلبة منهم بالتحديد. وبالتالي، باتت تستخدمهم أداة قمع لحماية سلطتها (بمعزل عن أي منظور طائفي، حيث كانت تستخدم الطائفة، ولم يكن لديها أيديولوجية طائفية). فاستطاعت السلطة أن تؤسس لنشوء شرخ مجتمعي مهم، ساعدها على التماسك طويلاً. لكن، ما ساعدها كذلك هو الدعم المباشر من إيران وأدواتها (حزب الله وكتائب أبو الفضل العباس)، والتسليح المستمر والخبرات من روسيا، وكذلك الحماية الدولية لها (على الرغم من أن الدول الإمبريالية لم تكن ترغب في التدخل، سوى ربما فرنسا وتركيا). لهذا، حينما استهلكت قواها، جرى إمدادها بالسلاح من روسيا وإيران، والمقاتلين من حزب الله، والطائفيين العراقيين التابعين لإيران، وإيران ذاتها، وقبل ذلك، بالخبرات والتدريب والإشراف.
ذلك كله سمح للسلطة في سورية بأن تبقى متماسكة، على الرغم من خسرانها عشرات آلاف الجنود ورجال الأمن من “البنية الصلبة” (الرقم الرسمي 40 ألفا)، وكذلك الشبّيحة. وعلى الرغم من عجزها عن تحريك معظم الجيش الذي بات يعيش حالة احتقان هائلة، أصبحت مهيأة للقيام بانشقاقات كبيرة، ما فرض وضعه في معسكرات مغلقة. وقد ظهر، في لحظةٍ، أن السلطة باتت تفقد السيطرة، لأنه لم تعد لديها قوى كافية للدفاع، الأمر الذي فرض دخول حزب الله وكتائب أبو الفضل والحرس الثوري بأعداد كبيرة، وبشكل علني. لتتماسك من جديد، وتبدأ سياسة استرجاع المناطق التي اضطرت للانسحاب منها. ولا شك في أن نجاح السلطة في الحفاظ على تماسك “البنية الصلبة” (أي كبار الضباط) هو الذي سمح بألا تسقط، لأنه سمح بعدم انشقاقها وخروج “كبار” من البنية الصلبة لقيادة “تحوّل ديمقراطي”، كما حدث في البلدان الأخرى. وكان هدف الفئة الحاكمة الحفاظ على هذا التماسك، ونجحت فيه، بالضبط نتيجة “الجائزة” التي قدمتها بعض أطراف المعارضة (الإخوان وإعلان دمشق) وأيضاً، بعض الدول الإقليمية (السعودية خصوصاً). ولهذا، مازالت السلطة قائمة، وهي التي دعيت إلى مؤتمر جنيف 2 وشاركت فيه.
العنصر الثاني: تحويل الثورة إلى عمل مسلح، على أمل حصول دعم “دولي” (كما كانت تروج المعارضة الخارجية)، أو نتيجة طبيعية لوحشية السلطة. وإذا كان الميل الطبيعي للتسلح، من أجل حماية التظاهرات، قد فرض تصعيد العنف السلطوي، واستغلال ذلك لممارسة أقصى الوحشية، فقد أفضت زيادة الوحشية إلى تسليح أعلى للثورة. المهم، هنا، أن التدمير الذي مارسته السلطة ضد مدن، ومناطق، كانت فاعلة جداً في الحراك الشعبي، قد فرض كذلك تراجع النشاط الشعبي، واختفاء التظاهرات تقريباً، واهتمام الناشطين “السلميين” باللاجئين الذين باتوا من دون مأوى، أو إعالة، بعد أن كان قسم أساسي منهم قد حمل السلاح. بالتالي، بات العمل المسلح الشكل الوحيد تقريباً. لكن العمل المسلح يفرض الحاجة إلى التسلح والمال، وبهذا، كان محتاجاً إلى التواصل مع معارضة الخارج (التي تمتلك المال، خصوصاً الإخوان المسلمين)، ومع دول تقول إنها تدعم الثورة (قطر والسعودية، وفرنسا وتركيا خصوصاً).

ابتزاز خارجي

هنا، خضع العمل المسلح لابتزاز بعض القوى المعارضة، ولابتزاز دول إقليمية، الأمر الذي فرض “الأسلمة” في تسمية الكتائب، لكنه ربط وضع الكتائب بكليته بها، وبالتالي بسياساتها. ولقد كانت ليس في وارد إسقاط النظام (كما السعودية)، أو تريد إسقاطه، لكن، في إطار قيادة تابعة لها، كان المجلس الوطني خير ممثل لذلك (وهنا قطر وتركيا وفرنسا). وإذا كانت العلاقة مع “الخارج” تضر شعبياً، وكذلك الأسلمة التي كانت تنجح سياسة السلطة، فقد خضع التسليح لسياسةٍ، تقوم ليس على حسم الصراع من خلال الدعم الكافي، بل على إعطاء “حقن”، لكي يستمر الصراع. فقد أراد بعضها أن تفشل الثورة، وتتحوّل إلى صراع طائفي، يُظهر أن التمرّد على الحاكم لا يؤدي سوى إلى الدمار. ولهذا، أرادت أن تكون الثورة السورية مقبرة الثورات العربية، والشكل الأفظع للوحشية التي ترعب الشعوب لكي لا تتمرّد.
بالتالي، ظل التسلح ضعيفاً، ولا يكفي لمواجهة آلة السلطة التي تحوي كل أنواع الأسلحة، وتتفوق بقوة نيران هائلة، وبالطائرات والصواريخ بعيدة وقريبة المدى، وبالأسلحة الكيماوية. ولهذا، بدا أن الدفع نحو “التسلح السريع”، والتحريض على استخدام السلاح، فخ ليس أكثر، ووسيلة لحرف الثورة عن طابعها الشعبي و”سلميتها” (على الرغم من أن هذا التحديد ليس دقيقاً)، وتقودها إلى متاهاتٍ، تودي بها إلى الفشل. فالتسلح يحتاج إلى المال الوفير والسلاح الكثير، وبالتالي، إلى سند “خارجي”. وحين تسلحت الثورة، وتخلت عن طابعها الشعبي (كان ممكناً الحفاظ عليه، مع التسلح ضمن سياسة مدروسة)، باتت في مأزق عميق. وزاد في المشكلة أن المسلحين لم تكن لديهم خبرات الحرب التي قرروا خوضها، وأن من انشقوا من كبار الضباط حُجز في تركيا والأردن، ولم يسمح لكثيرين منهم بالانخراط في الثورة، وتقديم الخبرة الضرورية. وأن تنافس أطراف المعارضة عمل على شرذمة الكتائب المسلحة، من خلال التنافس على “شراء الذمم”، أو الولاء، أو استثارة النوازع العائلية والمناطقية والقبلية، وحتى الطائفية. وهو ما شتت الكتائب، وأبقاها ذات طابع مناطقي، ودفاعي، وفتح المجال لدخول العصابات، وأنجح اختراقات السلطة. فقد أصبحت الثورة فوضى، بكل معنى الكلمة، خصوصاً بعد أن فرض المسلحون سلطتهم، بديلاً عن سلطة الشعب، وباتوا يمارسون السلطة في مناطق سيطرتهم، بدل قتال قوات السلطة. ومن ثم بات الجذب يسير نحو مركزة السيطرة لدى كتائب أصولية، نتيجة امتلاكها المال وبعض السلاح (كان يأتي من الخارج خصيصاً لها في الغالب). وأيضاً ترسّخ وجود تنظيمات، مثل “دولة العراق والشام” وجبهة النصرة وأحرار الشام، وهي امتداد لتنظيم القاعدة، وبات بعضها يحوّل الصراع إلى صراع في صف الثورة، حيث يفرض سلطته القروسطية، المتخلفة الأصولية الشمولية، على الشعب (داعش). وحيث اندفعت قوى أصولية أخرى لتشكيل “جيش الإسلام”، من أجل إقامة “دولة الإسلام”.

تفكك وفوضى

التفكك والفوضى هما السمتان الأساسيتان، الآن، في الثورة، إضافة إلى انسداد الأفق، نتيجة غياب الهدف (إسقاط النظام، أو قيام دولة إسلامية)، وغياب الاستراتيجية التي تشير إلى كيفية إسقاط النظام. فإذا كانت السلطة قد ضعفت، وكانت في بعض الأوقات قابلةً للسقوط، فإن الوضع الآن مختلف، فلم تستغل الثورة ضعف السلطة لإسقاطها (بداية سنة 2013 إلى معركة القصير ودخول إيران وحزب الله) بالضبط نتيجة غياب الرؤية لكيفية إسقاطها، وغياب الاستراتيجية العسكرية المناسبة، لمواجهة قوة متفوقة بقوة النيران. على العكس من ذلك، جرى اتباع استراتيجية، تخدم تماسك السلطة، لأنها تظهر تفوقها، وهي الاستراتيجية التي سُميت: تحرير المدن. حيث كان يضع المسلحون ذاتهم تحت سطوة قوة نيران العدو، ما كان يفضي إلى تهجير السكان، وتدمير المدن والمناطق، حتى وإنْ ظلت بيد الكتائب المسلحة، فلم يفد الأمر شيئاً، ما دامت السلطة متماسكة، ولم يجر تدمير بنيتها الصلبة (الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري والأمن والشبيحة). وما دام ليس هناك توحّد للكتائب، وليست هناك بلورة لطريقة يمكن أن تسقط السلطة فيها. بمعنى أننا فقدنا الزخم الشعبي، من دون أن تكون لدينا “استراتيجية حرب” واضحة، ومن دون أن يكون ممكناً تشكيل جيش موحد قادر على الحرب.

إذن، لم يحدث كسر في السلطة، لكي يبدأ “التحوّل الديمقراطي”، كما حدث في تونس ومصر خصوصاً، ولم تحدث الضغوط الخارجية (السعودية والأميركية والروسية والأوروبية)، لكي يرحل الرئيس، كما حدث في اليمن، ولا تحقق التدخل العسكري، كما حدث في ليبيا. ولا شك في أن المراهنات الأولى لدى الشعب بنيت على الشكل التونسي المصري، وبنت مراهنات أطراف في المعارضة (ما بات يسمى المجلس الوطني) على الشكل الليبي، وما طرحه الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بداية سنة 2012 هو أن ترعى روسيا مرحلة انتقالية، كما حدث في اليمن حينها. لكن سياق الثورة وتداخلاتها، واللعب الإقليمي والدولي، والتشبث الشديد للسلطة، ومن ثم نجاح سياستها لأن تبقى متماسكة، أفشل إمكانية انشقاقها (إلى الآن على الأقل). وواضح (أو ما يجب أن يكون واضحاً) أن التدخل العسكري “الغربي” ليس ممكناً، بل مستحيل. وظهر ذلك واضحاً في التهديد الأميركي الأخير، المتعلق بالأسلحة الكيماوية. وأصبح واضحاً كذلك أن “الحل السياسي” هو المطروح بتوافق أميركي روسي، وبدعم أميركي للدور الروسي، على أساس مبادئ جنيف التي أقرتها مجموعة العمل حول سورية في 30 يونيو/ حزيران 2012، والتي باتت تحظى برعاية دولية، بعد أن جرى تضمينها بقرار مجلس الأمن 2118، الخاص بالأسلحة الكيماوية السورية. ولا شك في أن إدارة أوباما حاسمة في أن الحل سياسي، وأن روسيا هي الراعية له بدعمها، وأن مبادئ جنيف كل الأمر.
إذن، ستكون الموازنة، الآن، بين الحل العسكري، سواء من السلطة أو من الثورة، أو الحل السياسي عبر آلية جنيف. وكما أشرنا، فإن الوضع يعاني استعصاءً، لا يؤشر إلى إمكانية لانتصار عسكري، الآن على الأقل، ووفق الوضع الراهن.

2

هل هناك بديل أمام الثورة السورية عن مسار الحل السياسي؟ هل يمكن أن تتطور بما يجعلها قادرة على الانتصار؟ في الظرف الحالي، لا يبدو أن هناك بديلاً، فنجد التالي:
1 – بات وضع الشعب السوري صعباً للغاية، نتيجة الدمار والقتل، لكن، أيضاً التهجير وافتقاد فرص العمل، وبالتالي إمكانية العيش، بعد انهيار الوضع الاقتصادي. ومن ثم، الوضع الأمني الضاغط، والذي يؤثر، بدوره، على الوضع الاقتصادي. واحتمالات القتل أو الاعتقال أو الإهانة. وظروف اللاجئين مؤسية، واحتمالات تهجير من تبقوا في البلاد يظل قائماً. ذلك كله مع الشعور أن الثورة السورية من دون أفق، لأنها تاهت عن أهدافها، وأن القوى الأصولية هي التي باتت تسيطر، أو تسعى إلى السيطرة، وبالتالي، وجود بديل أسوأ.

2 – المناطق التي باتت خارج سيطرة السلطة صارت في فوضى، و”داعش” تتصرف كأنها السلطة الحقيقية، في وضع يدفع إلى “الكفر” بالثورة. وعنصر التخريب واضحٌ هنا، وبات يحتاج علاجاً حقيقياً، لن يكون ممكناً في ظل الصراع الراهن، لأنه يحتاج إلى “توافق ما”، يفرض مواجهة هذه القوى، ويلغي دور محركيها، وينهي حاجة المستفيدين منها. وأيضاً، سنلمس زيادة ميل الأسلمة، والتفرّد في طرح بديل محدَّد، غير مقبول من قطاعات شعبية مهمة.
3 – وكما أشرنا، ليس من إمكانية للتسلح، أو للتخلي عن سياسة شراء الذمم، وتفكيك الكتائب المسلحة، وتدعيم أسلمتها من قوى “خارجية”. وليس من خبرة تسمح بإعادة تأسيس الكتائب المسلحة، أو توحيدها.
لهذا، يجب أن يكون واضحاً أن الحسم العسكري مستحيل الآن، وليس من إمكانيات واقعيةٍ له، نتيجة غياب التسليح أو تعميم التشرذم، أو لأن إسقاط النظام يحتاج إلى استراتيجية، ليست عسكرية فقط، لأن العسكرة وحدها سوف تبقي الصراع سنوات من دون طائل، ومع شرذمة سورية وتفكيكها وتدميرها. وهذه أصلاً مشكلة العسكرة منذ البدء، وهو خطأ الشباب الذي اندفع معتقداً أن السلاح هو ما سيجعله قادر على أن يحسم الصراع بقوة إرادته (مع معرفتنا بالظروف التي فرضتها السلطة لدفع الشباب نحو التسلح)، ولكن، أيضاً التدخلات من أطراف في المعارضة (الإخوان المسلمون) ارادت أن تكرر تجربة سنة 1980الفاشلة حتماً، معتمدةً على أن يكون التسلح مدخلاً تحضيرياً للتدخل الخارجي. أو نتيجة العمل إلى تخريب الثورة من دول إقليمية خصوصاً. لهذا، كانت “سياسة التحرير” كارثة بكل المقاييس، وساعدت السلطة على أن تبقى متماسكة، وأن تظهر جبروتها باستخدام أسلحتها المتفوقة، والنتيجة تعميم التدمير الشامل، من دون الوصول إلى كسر السلطة وإسقاطها.

مراهنات وبحث عن حلول

ذلك كله واضح للشعب السوري، واضحٌ عبر الحس السليم الذي يمتلكه، وعبر ملاحظاته ومشاهداته، على الرغم من أن الشعب لم يتراجع عن هدفه: إسقاط النظام، ولن يقبل حلاً لا يودي ببشار الأسد وآل الأسد ومخلوف وشاليش وكل الزبانية. وهذه هي المراهنة التي كانت على عملية “جنيف2″، أي هل ستنهي سلطة الأسد، أو أن المطلوب تحقيق عملية انتقال تحت سيطرته؟ هذه الأخيرة ستكون لعباً على الزمن، وعجزاً عن تحقيق “استقرار”، عبر قبول الشعب بالحل. ما يوصل إلى حل (وإنْ كان مؤقتاً لأنه لن يحل مجمل المشكلات التي قامت الثورة على أساسها) هو التخلص من سلطة آل الأسد والزبانية. وفتح أفق لمرحلةٍ انتقاليةٍ، ترسي أسس دولة مدنية ديمقراطية. وتوجد حلاً سريعاً لمشكلات الشعب الذي تدمرت بيوته، وأشغاله، وبات مهجراً (إعادة الإعمار الفعلية)، وحلاً للوضع المعيشي عموماً.
في كل الأحوال، يحتاج واقع الثورة السورية إلى إعادة بناء، بتحديد الأهداف التي يطرحها إسقاط النظام، أو بتحديد الخطاب المعبّر عنها، أو بتحديد وضع العسكرة والنشاط الشعبي فيها. لأنه في كل الأحوال، الثورة سوف تستمر، لا سيما وأن “جنيف 2” لم يحقق حلاً، ولو “نزع سلاح” و”منع استخدام سلاح”، أو وقف الصراع المسلح، وإنهاء وحشية السلطة، وكان من شأن هذا، في غضونه، أن يتحوّل صراع الشعب إلى “السلمية” من جديد، أي إلى كل أشكال الاحتجاج، خصوصاً وأن الحل الذي كان مأمولاً في “جنيف” يقوم على تأسيس شكل ما من الديمقراطية والحريات، يتضمن حرية الصحافة وتأسيس الأحزاب والنقابات، وحق الإضراب والاحتجاج والتظاهر. والنضال “السلمي” (قياساً بكل الوحشية التي مورست والتحوّل إلى الصراع المسلح) كان سيصير أساساً لكل الصراع من أجل تحقيق مطالب الطبقات الشعبية، أي مطالب العمل والأجر والتعليم والصحة والسكن. وهذه تفرض، بدورها، تغيير كلية النمط الاقتصادي لمصلحة نمط منتج، من أجل استيعاب العمالة والمرونة في رفع الأجور، وتوفير مجانية التعليم والصحة، وتطوير البنية التحتية. ويفرض هذا الأمر تأسيس النقابات والاتحادات والمجالس الشعبية، وهيئات الدفاع عن الشعب. وأيضاً تأسيس الأحزاب والتحالفات التي تهدف إلى تحقيق ذلك. هنا، يكون الفعل سياسياً طبقياً بامتياز، ومن أجل تحقيق مطالب الشعب. ولمقاومة السيطرة الاقتصادية التي ستفرضها الدولة الرابحة (روسيا)، وإعادة الإعمار التي ستوكل لشركات أجنبية. ما سيميّز الوضع هنا هو أن السلطة ستكون “ضعيفة”، بعد أن تحطمت “بنيتها الصلبة”، وسوف تميل للتفكك، بعد فقدان “البنية الصلبة” الضابطة لكلية الوضع. في المقابل ستكون أمام الشعب فسحة كبيرة لكي يعيد بناء مطالبه، وينظّم قواه، ليستعد لصراع حقيقي.

إعادة بناء الثورة

ولكي لا يضيع الوقت، لا بد من إعادة بناء الثورة، وهذا يقتضي التالي:
أولاً: الهدف الأساسي هو إسقاط النظام، وبناء دولة علمانية ديمقراطية، وتغيير النمط الاقتصادي لمصلحة نمط منتج. وبالتالي، حل مشكلات الطبقات الشعبية (البطالة والأجر المتدني وانهيار التعليم والصحة والبنية التحتية).

ثانياً: يجب قطع كل مراهنة على “دور خارجي”، يمكن أن يدعم الثورة، فالكل ضد الثورة، ولا يريد سوى تدمير سورية. الثورة يجب أن تنتصر بقواها الذاتية، وهي قادرة على ذلك، نتيجة قوة الشعب، لكن الشعب المنظم، وواضح الرؤية. وهنا تأتي أهمية الفعل السياسي.
ثالثاً: هذا يقتضي إعادة تأسيس العلاقة مع كل مناطق سورية، وإزالة التخوفات والتخويفات التي جعلت “الأقليات” مترددة، أو داعمة للسلطة. فلا إمكانية لإسقاط النظام من دون خلخلة القاعدة الاجتماعية التي يأخذ منها شبيحته وبنيته الصلبة، ومن دون دمجها في الثورة، خصوصاً وأنها مفقرة كمعظم السوريين، ومهمشة ومسحوقة كذلك. وهذا يفترض إدانة كل طائفي، وكشف اللثام عن كل القوى الأصولية الطائفية، ومواجهة محاولة بعض القوى فرض سلطة أصولية. والشغل على إيجاد مخارج لمشاركة القاعدة التي تريد السلطة إبقائها ملحقة بها.
رابعاً: لا بد من التأكيد على أن الأفق العسكري فاشل، فليس من دعمٍ “خارجي”، وليس من تسليحٍ كافٍ، يمكن أن يتوفّر، ولقد انحكم العمل العسكري للتنازع المناطقي، وللمنطق الدفاعي، وأيضاً، حين قام على التقدّم اتخذ شكل “التحرير”، وهو شكل كان يعطي السلطة كل الفرص لتصعيد التدمير والقتل، نتيجة تفوقها الحاسم في قوة النيران. لقد افتقد الرؤية الاستراتيجية، وتحوّل إلى صراع جيش ضد جيش، في وضع غير متكافئ، وتكرّس بديلاً للنشاط الشعبي، وعلى الضد منه، ما أفقده البيئة التي تحميه، حيث تربك قوى السلطة وتشلها.
خامساً: لم “تتحرر” المناطق نتيجة قوة العمل العسكري، بل نتيجة قوة الحراك الشعبي الذي توسّع في كل سورية، وانتقل إلى احتقان متصاعد لدى معظم قطاعات الجيش التي باتت خارج معادلة الصراع، على ضوء ذلك. ولهذا، اضطرت السلطة إلى سحب قواتها من المناطق التي باتت تسمى محررة (على الرغم من وجود مناطق جرى تحريرها بالفعل بعد ذلك). لهذا، لا بد من إعادة “الزخم الشعبي”، على الرغم مما تعرضت له المناطق من تهجير، وعلى الرغم من تحوّل ناشطين كثيرين إلى العمل المسلح، أو إلى العمل الإغاثي أو الإعلامي. لا بد من أن تتأسس سلطات شعبية في المناطق التي باتت خارج سيطرة السلطة، ولا بد من محاولة تحريك المناطق التي لم تتحرك بعد، نتيجة جملة مصالح، لكن، أيضاً، مشكلات في سياسات الثورة، وبعض أطراف المعارضة، خصوصاً التي ربطت إسقاط النظام بالتدخل الخارجي، فأخذت موقفاً مضاداً لـ “الأقليات” (والعلويين خصوصاً). فالمطلوب إعادة بناء العلاقة بين العمل المسلح الذي بات واقعاً والنشاط الشعبي الذي تلاشى أو يكاد. فالثورة لن تتطور وتنتصر، وهي تعاني من واقعها الصعب، وتشهد التفكك والتفتت والفوضى. وتعيش انسداد الأفق أمام العمل المسلح، نتيجة “السياسة العسكرية” المتبعة، والتي تنم عن عدم فهم للعمل المسلح وللثورات معاً.

سادساً: طبعاً لا بد من بلورة التعبير السياسي عن ذلك كله، وهنا، يجب الانطلاق من أن كل أطراف المعارضة ليست جديرة بأن تمثل الثورة، بله أن تقودها، وأنها يجب أن تكون خارج المعادلة. بالتالي، لا بد من تأسيس التعبير السياسي الذي يمثل الثورة حقيقة، من المجموعات التي نشأت في خضمها، ومن كل الفاعلين السياسيين الملتصقين حقيقة بالثورة، بعيداً عن كل القوى السياسية القائمة.
هذا يفترض إعادة بناء الثورة السورية، فأولاً، يجب تحقيق توازن بين النشاط الشعبي والعمل المسلح، كيف؟ هذا ما يحتاج إلى دراسة جادة لواقع الثورة، ولمشكلاتها وأيضاً للظروف الواقعية التي نتجت عن صراع دموي نحو عامين ونصف، ونتيجة التدخلات الإمبريالية والإقليمية التي كانت تخرّب على الثورة. وإعادة بناء الثورة ضرورة في كل الأحوال، فالصراع مستمر.

السابق
زوجته في الجامعة بعد شهرين من وفاتها!
التالي
رئيس نيجيريا يرفض مبادلة الفتيات المخطوفات بمعتقلين من بوكو حرام