استراتيجيتا اليابان والهند: نحو العسكرة

علم اليابان

استراتيجية اليابان

ترتيبات النظام الدولي التي وضعتها الولايات المتحدة غداة الحرب العالمية الثانية، سهَّلت، إضافة إلى السمات الثقافية والتاريخية الخاصة لكل من المجتمع والرأسمالية اليابانيين، صعود اليابان إلى المرتبة الاقتصادية الثانية (والآن الثالثة بعد الصين) في العالم بعد أميركا. فهل تسفر التحولات الراهنة في هذا النظام إلى عودة القوة العسكرية الامبريالية اليابانية؟

لا يستبعد ذلك. وسنتطرق إلى الأسباب بعد قليل. لكن وقفة أولاَ امام التحولات التي طرأت على موقع اليابان في النظام العالمي الأميركي.

ترافق صعود اليابان الاقتصادي إلى المرتبة العالمية مع بدء تآكل هيمنة الولايات المتحدة في العالم. إذ بات واضحاً في ثمانينيات القرن العشرين أن الولايات المتحدة نفسها لم يعد بمقدورها قيادة العالم من دون مشاركة بقية القوى الصناعية الرئيسة في هذه المهمة، بعد أن باتت تعاني من عجوزات تجارية وعجوزات أخرى في الموازنة بسبب زيادة الإنفاق العسكري، والتقلص التدريجي لوتائر التوفير والاستثمار، وخفوضات الضرائب التي أدخلها الرئيس ريغان. أصبحت الولايات المتحدة في حاجة إلى الاقتراض، وهكذا تحوّلت في غضون سنوات قليلة من كونها أكبر مُقرض إلى أكبر دائن في العالم. وكانت اليابان (ثم الآن الصين) أول ممول للديون الأميركية. ولذلك، وبمعنى ما، بدأت تتغير بالتدريج علاقة السيد والتابع بين اليابان والولايات المتحدة، وسرى  الحديث بعد زوال الخطر الشيوعي عن بدء التنافس بين الطبعة الأنغلو- ساكسونية من الرأسمالية  القائمة على شعار “دعه يعمل، دعه يمر” الليبرالية وبين الطبعة اليابانية المستندة إلى مفهوم رأسمالية الدولة التطورية.

هذه التطورات دفعت اليابان إلى التفكير بالتخلي عن “مبدأ يوشيدا” الذي ينص على أن اليابان يجب أن تتجنب النزاعات الدولية، وأن تحتفظ بوضعية خفيضة في القضايا العالمية، وأن تواصل التركيز على المسائل الاقتصادية. لقد نجحت في السابق كتابع للولايات المتحدة، وبات عليها الآن أن تشارك في تحمّل عبء النظام العالمي كي تحافظ على أرصدتها واستثماراتها الضخمة في آسيا وبقية العالم.

حتى الآن، اليابان لاتزال تعيش تحت مظلة الحماية الأمنية الأميركية. لكنها إذا ماقررت في يوم ما، كما تفكر الآن، في التحوُّل إلى قوة عظمى عسكرية،  فهي قادرة على تحقيق ذلك في برهة وجيزة بفعل قدراتها المالية، وتكنولوجيتها المتطورة، وانتاجيتها الاقتصادية. وحتى في هذه المرحلة، وعلى رغم أن البند التاسع من الدستور يحظر على اليابان العودة إلى العسكرة أو إعلان الحرب أو استخدام القوة العسكرية في الشؤؤن الدولية، فإنها تنفق 40 مليار دولار على الشؤون الدفاعية، وهذا أعلى رقم في العالم بعد الولايات  المتحدة.

ثمة عاملان آخران، إضافة إلى تراجع القوة الأميركية، يدفعان اليابان إلى العمل على لعب دور أكبر في النظام العالمي، وهما عاملان يتغذيان من بعضهما البعض: الأول بروز جيل جديد من القادة السياسيين اليابانيين الذين يريدون طي صفحة التنصل من الماضي الامبريالي الياباني الذي دام قرناً من الزمن، ويداعبون بقوة مشاعر القومية اليابانية الداعية إلى تغيير السياسة الخارجية اليابانية. والثاني، تصاعد وتائر المجابهة بين اليابان والصين الصاعدة.

في مؤتمر منتدى دافوس العالمي الذي عقد في أوائل العام 2014، فاجأ رئيس الوزراء الياباني العالم حين شن حملة عنيفة على الصين متهماً إياها بأنها ذات نزعة عسكرية وعدوانية، ومشيراً إلى أن الصين واليابان تشبهان ألمانيا وبريطانيا عشية الحرب العالمية الأولى: فهما متزوجتان اقتصادياً  لكنهما مطلقتان استراتيجيا. وقد ردت الصين بالمثل، واتهمت اليابان بأنها تريد العودة إلى “ماضيها العسكري الامبريالي البشع” في آسيا.

بيد أن الأمور لم تقتصر على الأقوال بل سبقتها الأفعال.  ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2013 أعلنت الصين عن إنشاء منطقة محظورة على الطيران في شرق آسيا من دون الحصول أولاً على إذن السلطات الصينية. وقد شمل ذلك المناطق المتنازع عليها بين طوكيو وبيجينغ. وفي الشهر الذي تلا ذلك، قام رئيس الوزراء الياباني بزيارة ضريح ياسوكوني الذي تقول الصين وبقية الدول الآسيوية بأنه يضم رفاة مجرمي الحرب اليابانيين، وأثار ذلك موجة من الغضب في الصين والكوريتين.

صحيح أن المحللين لايتوقعون إلى تصل الأمور بين هذين العملاقين إلى درجة الانفجار العسكري بسبب الاعتماد الاقتصادي المتبادل بينهما(اليابان لديها 23 ألف شركة ضخمة عاملة في الصين يعمل فيها 10 ملايين صيني)، إلا أنهم يشددون على أن النزاع الياباني- الصيني قد يكون أخطر نزاع جيو- سياسي في العالم. وهذا لأسباب عدة، أولها أنه سيكون هناك دوماً احتمال، ولو كان بعيدا، لبروز سوء الحسابات بين الطرفين يؤدي إلى مضاعفات ساخنة. وعلى سبيل المثال، حين تنطلق الطائرات اليابانية المقاتلة  للتعاطي مع “الاختراقات” الصينية للمجال الجوي الياباني، تزداد إمكانية ارتكاب الأخطاء. ثم أن اليابان بدأت منذ فترة تحوّل استثماراتها من الصين إلى دول أخرى في جنوب شرق آسيا، فيما تعمد الصين إلى استبدال اليابان بكوريا الجنوبية كشريك تجاري أول. وبالتالي، إذا مابدأ الصينيون واليابانيون  بالتفكير بأن علاقاتهم الاقتصادية تتدهور، فإن احتمالات المجابهة تكبر.

علاوة على ذلك، حجم وديمومة النزاع بين الطرفين قد يجعلانه خطراً أمنياً عالمياً كبيرا، لأن التوترات تجد جذورها في عداوة تاريخية لايبدو أن لها حلا، في وقت لايبدو أن ليس ثمة أقنية دبلوماسية تعمل على تهدئة الأمور بينهما. فلا الولايات المتحدة ولا أي دولة أخرى تظهر على شاشة الوساطة بينهما. ووفقاً لبحث في العام 2014 لمؤسسة بيو، فإن 6 في المئة فقط من الصينيين ينظرون بإيجابية إلى اليابان، و5 في المئة فقط من اليابانيين ينظرون بإيجابية إلى الصين.

وثمة نقطة قد تكون أخطر من كل ذلك: كلا الطرفين يستخدمان النزاع لخدمة أغراض داخلية: الصين لتفريغ الشحنة القومية الفائضة لدى سكانها وتعزيز الشرعية الشعبية لنظامها، ولتبرير مواقفها اللينة مع الولايات المتحدة. واليابان تستخدم الصعود الصيني كفزاعة لاستنهاض العصبية القومية اليابانية، بهدف استعادة دورها العالمي. وإذا ماتطابق هذا التسابق على استثارة الحمى القومية مع تراجع الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الطرفين، فإن هذه ستكون وصفة ممتازة كي تعلق قرون العملاقين في اشتباك لافكاك منه. وفي حال حدث ذلك، سيعني ذلك أن ثمة ضوءاً أخضر أميركياً لليابان كي تتسلح مجدداً لموازنة الصعود الصيني، في إطار تجديد “الامبريالية الجماعية” الأميركية- الأوروبية- اليابانية.

الهند

الهند يرجح أن تكون قريبا  قوة رئيسة في النظام العالمي الجديد، حيث أن دورها سيشمل:

“مسؤوليات” اقليمية أوسع ( أي أوسع من شبه القارة الهندية) في المنطقة الآسيوية.
تعاونا وثيقا مع القوى المسيطرة ، خاصة الولايات المتحدة ، حول القضايا الحيوية لجدول اعمال النظام العالمي الجديد .

وهذا الدور سيتضح حين يأخذ النظام العالمي شكلا محددا على المستويين الدولي والاقليمي. بيد أن المؤشرات على هذا الدور المحتمل لم تن تتراكم طيلة السنوات الاخيرة من جانب مؤسسات الدراسات الاستراتيجية، وكلها تشير الى أن الهند سيكون لها اساسا دور استراتيجي- عسكري. فهي ستكون لاعبا في كل الخطط المتعلقة بالاستراتيجيات والعلاقات والتحالفات المتعلقة بالاهتمامات الامنية للنظام العالمي الجديد والتي تعتبر الصين تهديدا محتملا.

على صعيد الدور العالمي الجديد للهند، تبرز العلاقة الدفاعية بينها وبين الولايات المتحدة. وهذا ليس تطورا جديدا. فهي بدأت منذ عهد جون كينيدي، و تبلورت في الدعم الاميركي غير المباشر للبناء الصاروخي والنووي الهندي. لكن الجديد في العلاقات الهندية –الاميركية هو بدء ” الحوار الاستراتيجي ” بين الطرفين حول الأمن في النظام العالمي الجديد وليس فقط في شبه القارة الهندية.

على الصعيد الاقليمي، ستبرز النشاطية الهندية من خلال “أ “: اشتراكها في نظام ميزان القوة الاسيوي ب”أشتراكها في منظمات عالمية مثل آسيان والمنتدى الاسيوي، و”ت “: في تمدد نفوذها السياسي- الثقافي نحو آسيا الوسطى.

الاشتراك في نظام ميزان القوة: الهدف الاساسي هنا سيكون موازنة الصين. والغرب واثق من أن الهند ستكون تابعة له حتى لو نشبت حرب الحضارات التي يتحدث عنها هانتيغتون بين الغرب وبين تحالف الصين واليابان.

الاشتراك في آسيان : الهدف هنا هو منح الهند مداخل الى عماية صنع القرار السياسي- الأمني في منطقة آسيا- المحيط الهاديء ، والحصول على المنافع الاقتصادية ، وخدمة المصالح الاميركية هناك.

التمدد نحو آسيا الوسطى: الهدف سيكون خدمة جدول اعمال انظام العالمي الجديد، خاصة ما يتعلق منها بمواجهة ” الاصولية ” الاسلامية في المنطقة.

إن نظام ميزان القوة متعدد الاقطاب في آسيا يمكن أن يتكوَّن من أميركا واليابان والصين وروسيا والهند، ومُصَمَم ليكون له هدفان : النمو الاقتصادي بلا حدود وتأمين الامن الاقليمي. وهو يبدو الاطار الافضل لحماية المصالح الاميركية في القرن الحادي والعشرين. ومن بين هذه المصالح ،على سبيل المثال، حرية الملاحة في أعالي البحار، بما في ذلك الطرق البحرية عير جنوب شرق آسيا.

لكن المصلحة الأهم هي الحفاظ على دور مهيمن وقوي في المنطقة. ونظام ميزان القوة ذو القوى الخمس هو أفضل رهان، لأن الولايات المتحدة المهووسة بالصين تستطيع أن تمنع من خلاله هذه الاخيرة من ان تصبح القوة المهيمنة في المنطقة .

وهذا مايدفع العديد من الاطراف في الولايات المتحدة الان الى المطالبة بالبدء من الان لعب “ورقة الهند ” بهدف تسهيل ولادة النظام الإقليمي الآسيوي الجديد.

السابق
حزب الله غير متخوف من الفراغ الرئاسي
التالي
جامعات لبنان: ثقافة ضحلة ومدرّسون جهَلَة والواتس آب ملك المشهد