مؤتمر تأسيسي يؤسّس ماذا؟!

ترمي أطراف الطبقة السياسية شعارات تنمّ عن استخفاف بوعي اللبنانيين أو عن عقم في التفكير وغالباً عن جهالة. من بين هذه الشعارات التي راجت مع أزمة انتخاب رئيس جديد للجمهورية كان شعار الدعوة إلى «مؤتمر تأسيسي». يُحكى عن «مؤتمر تأسيسي» عادة لإقرار دستور جديد ينبثق عنه نظام سياسي ويفترض أن الغاية هي تحديد ضمانات أوسع وأعمق لحقوق المواطنين أو هيكلة جديدة للعلاقة بين السلطات، وفي الحالة اللبنانية تخصيصاً التوازنات والصلاحيات بين حصص الجماعات الطائفية أو تحرير النظام من نظام المحاصصة وتجاوز الطائفية. فما الذي يرمي إليه شعار «المؤتمر التأسيسي» اليوم؟ لا أحد يصرّح بوضوح بنوع الأهداف التي يتوخاها، ولا أحد يشرح ما هي المشكلات الدستورية أو النظامية التي يريد حلها، ولا المطالب التي يرتجي تحقيقها لكي يشعر هذا الفريق أو ذاك بالرضا أو بالمشاركة الأكثر صحة وعدالة وفعالية.
اختار اللبنانيون تعديل دستورهم ونظامهم بعد معاناة وتضحيات جسيمة، وبلوروا عبر ممثليهم السياسيين هذا التعديل على مدى خمس عشرة سنة تفاوضاً بواسطة النار والقتال. لم تولد تلك التعديلات التي أقرت في «الطائف» من خلال غرف مغلقة، ولا هي تمّت من وراء ظهر القوى السياسية المشاركة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في مؤتمرات الحوار منذ عقدين على الأقل قبل الوصول إليها.
انتقل اللبنانيون من النظام الرئاسي إلى النظام البرلماني استجابة لمطلب المشاركة، ونتيجة لممارسة «الرئاسة» صلاحياتها الواسعة في إطار النزاع الطائفي.
قد يكون نظام المشاركة أو «جماعية» السلطة التنفيذية غير موفق أو غير ناجح في الممارسة، والأرجح أنه مختلّ بسبب نقص في تحديد واضح للصلاحيات أو بسبب موازين القوى السياسية، فهذه أمور جدية مطلوب الخوض فيها منذ اللحظة الأولى لوضع التعديلات الدستورية موضع التطبيق جزئياً واستنسابياً والالتفاف على حقوق وضمانات عديدة كان يمكن لها أن تعطي مصداقية فعلية للنظام البرلماني.
لكن ليس هذا ما نواجهه اليوم، بل نواجه نزوعاً واعياً لدى جهتين من طائفتين كبيرتين لتعديل توازنات السلطة. وإذا كان هذا النزوع مألوفاً ومشروعاً لا سيما في ضوء تجربة النظام وطبيعة القوى التي تشكّلت خارج «القواعد الديموقراطية»، فهو لا يحتاج إلى «مؤتمر تأسيسي» من جهة ولا تمكن معالجته في ظل الأوضاع الاستثنائية الشاذة التي لا يمكن أن يقبل معظم اللبنانيين بتحويلها إلى حالة شرعية دستورية نهائية.
المطلوب والضروري الآن هو ورشة عمل إصلاحية لوضع قوانين ناظمة داخلية لسلطة رئيس الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة فضلاً عن قانون انتخاب هو نفسه المدخل لكل إصلاح، واستكمال بناء المؤسسات وتعديل طريقة تشكيلها في الاتجاه الذي يضمن حقوق المواطنين ولا يعيد إنتاج نظام الزبائنية والمحاصصة.
على أي حال ليست هناك استجابة داخل أطراف الطبقة السياسية لأي من الطروحات التي تمس «الامتيازات» أو التي تفعّل الممارسة الديموقراطية. ينساق بعض حَسَني النية إلى شعار «المؤتمر التأسيسي»، ظناً أنه الوسيلة لتخطي المشكلات الطائفية. المسألة تحتاج إلى فهم أفضل للمعطيات الدستورية الراهنة وأهمية تطبيقها، ولموازين القوى السياسية التي تحكم أي تعديل أو تغيير. لم ننتج بعد «الطائف» لا حركة ولا قوة سياسية تحمل مشروع الدولة المدنية، ولا نحن خضنا فعلياً معركة تطبيق الإصلاحات الدستورية والسياسية والمؤسسية ومبادئ المقدمة من الدستور المعدّل وما صار ميثاقاً وطنياً مكتوباً. وفي أي عمل سياسي الآن نتوجه إلى القوى ذاتها التي أقامت كل هذا التشويه في النظام السياسي والاقتصادي الذي نشأ في زمن تقاسم السلطة وتوزيعها خارج معطيات الدستور، من تعيين النواب إلى إعادة تعيينهم بالقوانين الانتخابية المفصّلة على قياس مصالحهم.
ما يهمّ اللبنانيين الآن هو استيعاب واحتواء المشاريع والقوى الطائفية ضمن الكيان والدولة في لحظة حرجة من الانشداد إلى الأوضاع الإقليمية ونزاعاتها، وفي حالة من تصاعد «الطموحات» الممزوجة بأوهام قاتلة عن احتمالات تشكل النظام الإقليمي على أرجحيات طائفية أو على إنشاء معسكرات جديدة إسهاماً في تشكيل هذا النظام. ما نعرفه حتى الآن من معطيات لا يسمح بالقول إن في أفق العالم كتلاً متصارعة ذات نماذج اقتصادية واجتماعية مختلفة ولو كانت ذات هويات سياسية أو ثقافية مختلفة. لقد كان سقوط جدار برلين إيذاناً بوجود نظام عالمي جديد يسمح بالمنافسة والمشاركة ولا يُعطي فرصاً كثيرة أو بعيدة الأمد لمعسكرات دولية وحروب باردة وصراعات أولويتها أو سمتها الأساسية الاقتسام الجغرافي لمناطق النفوذ. وليس أدلّ على هذا الاستنتاج من المصير المتزايد لتصفية إرث الإمبراطورية السوفياتية بعد زوال الإمبراطوريات الأوروبية الغربية وعدم انتهاك الإمبراطورية الأميركية سياسة احتلال الأرض والبقاء فيها. هذه ميزات العولمة الجديدة العابرة لكل الحدود والمستهينة بالفواصل الحقوقية التي صارت كلها خطوطاً زرقاء وهمية أمام السيطرة الاقتصادية.

السابق
الجمهورية: التعثر الإيراني السعودي يُجمّد الرئاسة والحكومة
التالي
هل يتعمّد حزب الله إحداث الفراغ