مناقشة لمقال السفير الأميركي في «النهار»

ديفيد هيل

هنا مناقشة سجالية مع المقالة التي كتبها السفير الأميركي في لبنان ديفيد هيل الثلثاء الماضي (6/5/2014) في “النهار” تحت عنوان “احترام السيادة”.

سعادة السفير،
لا أعرف بالضبط ما هي الآليّة التي يتبعها السفراء الأميركيون حين يكتب أحدُهم مقالا يتوجّه فيه إلى البلد الذي يُمثِّل دولته فيه، ولا أعرف طبعاً ما إذا كانت فكرة مقارنة الوضع في لبنان بالوضع في أوكرانيا هي اقتراحك الخاص الذي وافق عليه مراجعُك في وزارة الخارجية في واشنطن أم هي فكرة مقارنة تلقّيتها من تلك المراجع. النتيجة السياسية هي نفسها في الحالتين، فما يصدر عنك كسفير معتمَد هو الخطاب الرسمي الأميركي.
في مقالك أمس الأول تبدو في الواقع فكرة التشابه بين أوكرانيا ولبنان ممكنة وغير دقيقة في آن معاً. في أي لحظة في عالم اليوم يمكن اختيار أي بلدين من مكانين مختلفين في العالم والبحث فالتركيز على عناصر تشابه بينهما. لكن في السياق الراهن الكثيف للتأزّمات الدوليّة، وتحديدا بالنسبة للغرب، فإن البلد الذي يجب مقارنته بأوكرانيا واقعيا هو سوريا وبكل المعاني الإيجابية والسلبيّة …وليس لبنان.
سأحاول أن أشرح لماذا برأيي المتواضع:
1 – هناك جبهتان سياسيّتان وبشكل غير مباشر أمنيّتان ساخنتان بحجمين مختلفين من المواجهة بين روسيا والغرب حاليا. الجبهة الأوكرانية والجبهة السورية. الجبهة الأوكرانية هي الأهم استراتيجياً بأشواط لدى روسيا. هذا لا يحتاج لشرحٍ تاريخي ولاجغرافي ولا ديني و لا إثني. إنه من حقائق وعي النخبة الروسية القومي بمختلف الاتجاهات بما فيها الرافضة لحكم الرئيس فلاديمير بوتين. أما سوريا، ولو سبق اشتعالُها اشتعالَ الأزمة الأوكرانيّة، فقد فوجِئ العالم، والشرق الأوسط تحديداً، أن الرئيس بوتين قرّر اعتبارها مسألة استراتيجية لأنها عَنَتْ له انتقال الهجوم الشامل لِـ”القوة النائمة” الغربية وخصوصا الأميركية عبر موجات “الربيع العربي” الديموقراطية من شواطئ إفريقيا الشمالية العربية على البحر الأبيض المتوسّط، و الممتدة من تونس إلى مصر مرورا بليبيا، نحو الشاطئ الآسيوي في سوريا. وهناك، من مجلس الأمن إلى طرطوس وبموافقة صينيّة سعى بوتين لإيقاف هذا المد لأنه اعتبره قريبا من حدوده الجنوبية…

2 – لو كنتُ مؤرّخاً لكتبتُ أنه في كل تاريخها، بما فيه عهد الرئيس ويلسون، لم تحظَ الولايات المتحدة الأميركية بهذا الحجم من التأييد بل التبنّي للقيم والأفكار الديموقراطية ومفاهيم الليبرالية الاقتصادية لدى النخب العربية الشبابية بمعظم اتجاهاتها من اليمين إلى “اليسار” السابق كما حظيت مع ذروة انطلاق موجات “الربيع العربي” بما في ذلك التيار الأوسع من نخب الإسلاميين. لقد بدا الأمر في البداية و كأنه بعد سنوات العداء بل الكراهيّة الطويلة لدى النخب العربية للموقف الأميركي الداعم لإسرائيل أصبح الموقف من ميدان التحرير إلى شارع بورقيبة إلى ساحات طرابلس الغرب إلى بعض ساحات دمشق وحلب وحمص وكأن النخب الجديدة تحوّلت من أولوية الصراع العربي الإسرائيلي إلى أولوية القيم الديموقراطية للمرة الأولى منذ تأسيس إسرائيل عام 1948 (دون أن يعني ذلك زوال رفضها وغضبها على الاحتلال الإسرائيلي المتزايد في الضفة الغربية بوقاحة جعلت وزيرخارجيتك يصفها بنظام التمييز العنصري، حتى لو عاد ونفى أو اعتذر عن ذلك).

3 – هذا المناخ القِيَمي تحطّم في الواقع على الشاطئ والداخل السوريّين، لكن ليس بسبب الموقف الروسي بل بسبب القرار الغربي الخبيث بـ”عسكرة” الصراع في سوريا. نعم القرار الخبيث الذي جعل أصدقاء لي مهمّين في المعارضة السورية في الخارج يهمسون بأنهم باتوا يشكّون أن يكون القرار الغربي الفعلي هو تدمير سوريا لا تغيير نظامها! لن أدخل في جدلٍ طويلٍ أعرفه وتعرفه وقائم على الحجة القائلة أن النظام السوري هو الذي بادر إلى العنف ضد المتظاهرين. طبعاً هو الذي بادر، ولكن هل المعارضون السوريون كانوا سيصبحون المعارضة المدنية الوحيدة في التاريخ المعاصر، من المهاتما غاندي إلى نلسون مانديللا وغيرهما، التي ستواجه آلة أمنية قمعية؟ حتماً لا وإنما بدأ تدفّق السلاح مع فتح الحدود التركية والأردنية، وخصوصا التركية، مما أسفر عن حالة تعاون فعلية متواصلة بين أعتى أنواع المتطرّفين الدينيّين وبين المخابرات التركية بتنسيق مع المخابرات الأميركية. وهذا مكمن الازدواج الفظيع الذي تنطوي عليه “الشكوى” الغربية من المتطرّفين؟!!

4 – أياً يكن حجم الانخراط الإيراني الاستراتيجي في الصراع على سوريا، فقد قامت طهران ، حتى بالمنطق الطائفي، بتوريط شيعة لبنان كلِّهم، على الأقل معنويا للكثيرين جدا منهم، في النزاع السوري وقامت – وهذه نقطة غير شكلية – بجعل “حزب الله” يعلن بصورة دعائية عن المشاركة “الرسمية” في الحرب. ناهيك طبعا عن الكلفة البشريّة الغالية لهذا التورط ، مثلما ورّط المشاركون السُنّة من سلفيين وغيرهم وبدعم من أجهزة غربية وإقليميّة عربية الطائفة السنية في لبنان بشريا ومعنويا في الصراع منذ اللحظة الأولى لبدء “العسكرة” السورية. وهو ما يرجو كثيرون اليوم أن تخفّف التسوية – الهدنة القائمة مجدّداً في طرابلس من ضحاياه السنّة والشيعة على السواء. هدنة نعرف أن حكومة الولايات المتحدة الأميركية تشجعها، من حسن الحظ، ضمن موقفها الجدي الداعي إلى منع التفجير الشامل في لبنان . طرابلس العزيزة التي تستحق تشجيع قواها المدنية على تأكيد دور ريادي وهي تاريخيا إحدى المدن الرئيسيّة في بلاد الشام والمدينة الثانية في الكيان اللبناني.

5 – سياسيّاً بات الغرب يهاجم نظام فلاديمير بوتين وروسيا بقوته الناعمة على جبهتين غربية وشرقية مثلما فعل ضد الاتحاد السوفياتي في الثمانينات على جبهتي بولونيا الكاثوليكية في الغرب وأفغانستان المسلمة في الشرق. الفارق اليوم أن روسيا لم تعد قوةً عالمية عظمى وانما هي قوة إقليمية عظمى ذات نفوذ دولي. من زاوية جيوبوليتيكية من حق بوتين أن يرى في الهجوم الغربي الحالي في أوكرانيا “عدواناً سافرا. لكن من زاوية قيميّة فالغرب لا شك يتمتّع ليس فقط بدعم جزء مهم من النخبة الأوكرانية بل أيضا بطموح شعبي أوكراني فعلي للالتحاق – ولو النسبي – بمستوى الحياة الأوروبية الغربية.

6 – على غرار سوريا تحوّل النزاع في أوكرانيا إلى حربٍ أهلية وبذلك هي أزمة من ثلاثة مستويات أكيدة: داخلية – إقليمية – دولية لكلٍّ منها ظروفه المعقدة وآليّاته وجمهوره.
الاستحقاق الرئاسي اللبناني شأن حيوي مهم في لبنان. ومعك كل الحق في أن تحذِّرنا من مخاطر فراغه المتعدِّدة. أشكرك كأي لبناني على ذلك لكنّ لن أعلِّق على دعوتك للسياسيّين اللبنانيّين أن ينتخبوا رئيسا بدون تدخّل خارجي! هل تمزح سعادة السفير؟!!

السابق
جورج ابراهيم عبد الله يقدم طلباً جديداً لإطلاق سراحه
التالي
رود – لارسن يحذّر من الإخفاق في انتخاب رئيس