المُشير المحيّر

التعرف على الرئيس الجديد لمصر في السهرتين الماضيتين، كان عملا شاقا، لانه استغرق اكثر من خمس ساعات تخللتها استراحات اعلانية غير مريحة، وانتهى الى السؤال نفسه : هل هذا الرجل فعلا هو ما يستحقه المصريون، ولا يطلبون غيره، وهل هو جدير حقا بثورتهم الباهرة؟
لم يبدد المرشح الفائز بانتخابات رئاسة الجمهورية المقررة في 26 و27 مايو ايار الحالي المشير عبد الفتاح السيسي، في حواره التلفزيوني الاول الحيرة الدائمة بين كونه ساذجاً او طاغية. الجمع بين الصفتين ممكن، بل مرجح، بسبب الخيط الرفيع بين السذج وهم في العادة بلا اي عمق او محتوى سياسي او معرفي، وبين الطغاة وهم في الغالب مرضى نفسيون لكنهم في الوقت عينه اصحاب مخيلة واسعة وافكار جنونية واساليب انتحارية.
لم يزعم السيسي انه من صنف الضباط العظام الذين ساهموا عبر التاريخ في تحرير بلدانهم وفي تطويرها وتحديثها ووضعها على خريطة العالم. الجمل المتقطعة، والمضحكة ، التي نقلت عنه قبل ذلك الحوار التلفزيوني الاول، مساء الاثنين والثلاثاء، كانت تشي بالعكس تماما: الرجل ضحل الثقافة واللغة، بل والخبرة حتى في الامور العسكرية، التي تحتوي على علوم استراتيجية وسياسية واسعة الافق. إنه ضابط أمن لا أكثر ولا أقل، لا يعكس حتى القيمة الفعلية للمؤسسة العسكرية المصرية، التي كانت منذ ايام محمد علي وحتى اللحظة عصب الدولة المركزية في وادي النيل وجوهرها ومكونها الاقوى والاعمق.
لكنه ليس آتياً وحده الى الحكم. المؤسسة كلها ستشاركه، وستقوم بدور رئيسي في عملية التنمية، من شق الطرقات وبناء محطات الكهرباء واستصلاح الاراضي وتوزيع السكان على مساحة الجمهورية كلها..من دون تعريف تلك العملية بانها استحضار لخطة اشتراكية قديمة او فكرة ليبرالية محدثة: اعادة تشكيل الاجتماع المصري على جغرافيا جديدة واعادة تأسيس الاقتصاد المصري على قواعد جديدة، وفق لمحات من برنامج العالم المصري الشهير فاروق الباز، الذي يتطلب اكثر بكثير من العشرين مليار دولار التي كشف السيسي انها سيتلقاها من السعودية ودولة الامارات العربية والكويت، ويرفدها بأموال المصريين في الخارج.
هذا ما يبغيه المصريون في غالبيتهم الساحقة، حسب تعبيره، من دون الحاجة الى قوى سياسية او اجتماعية حاضنة، عدا المرأة المصرية التي يحبها السيسي لانها ستطفىء النور والغاز في البيت وتهتم باسرتها، لا لأنها ستنتظم في مؤسسات او هيئات او حتى نقابات، لكي لا تخرج من الان فصاعدا في تظاهرات لا يودها، وترفع مطالب لن يلبيها. فالوقت ليس للتظاهر ولا لأي حراك مطلبي، بل للصبر، من اجل الانتهاء من مكافحة العوز.. ومحاربة الارهاب. وما على الثورة الا ان تنتظر، وتطوي شعاراتها حول الحرية والديموقراطية.
في ذكر الارهاب ومحاربته خرج السيسي عن طوره ، بدا منفعلا حقا، كجندي دعي الى تأدية واجب مقدس، كان وسيبقى صنو المؤسسة العسكرية المصرية وعنوان عقيدتها الرئيسية. لفق بعض الوقائع، وزيف بعضها الاخر، واندفع في التحليل الى حد أدهش الغربيين أنفسهم الذين كانوا وما زالوا يطالبونه بالتروي في عملية البطش بالاسلاميين والتمييز بين معتدليهم ومتطرفيهم. أبى ان يناقش، وجزم في أن الجميع إرهابيون، لن يكون لهم وجود في دولته، وتحت حكمه.. الذي ستكون كلفته على الارجح مرتفعة جدا على الغرب كما على الدول الخليجية الثلاث المعنية برعايته والعناية به.
جاهر السيسي بأن الدولة المصرية ستعود الى سيرتها الاولى، تقاتل الاسلاميين الذين انتجتهم هي بسوء ادارتها للموارد والثروات والافكار، على مر العهود الماضية، وتحاصر العشوائيات التي تهدد اليوم الاجتماع المصري برمته، والتي لم تكن ايضا وليدة الصدفة لا سيما في العقود الاربعة الماضية. تلك هي مشيئة الغالبية المصرية، التي جربت الثورة، وانتهت في حضن ضابط يؤمن لها فرارا مؤقتا من مواجهة معضلات جدية، لا تنذر بسقوط مصر حسب تعبيره، لكنها تحتاج بالتأكيد الى قيادة أذكى وأبرع من ذلك النموذج المحيّر الذي عرض على التلفزيون في ليل مصري موحش.
السابق
فيروس ’كورونا’ وصل إلى لبنان.. وموسم الحجّ قد يكون كارثيا
التالي
14 آذار: شهدنا نسفا للنصاب ممن يفترض أن يكونوا مسؤولين عن كل لبنان