رسالة إلى الدكتور محمّد شطح

إذا كنتَ لا تزال مهتمّاً بالسياسة اللبنانية بعد جريمة اغتيالكَ ولم تنصرف إلى المشاغل الفكرية والأكاديمية التي كنتَ في خضمّها قبل أن تتحوّل إلى سياسي لبناني من الجيل الجديد، فإني أخاطبك اليوم لسببٍ جوهريٍّ من وجهة نظري هو كيف أن التشدّد والاعتدال في السياسة اللبنانية يتغيّران لدى كل الأطراف الأساسية فجأةً تبعا لإملاءات خارجية إقليمية خصوصاً ودولية.

بين الأجواء الفظيعة التي كنتَ ضحيّتها البارزة الأخيرة، أجواءٍ خطرةٍ استمرّت سنواتٍ حفلت بالقتال هنا وهناك، حتى بالأيدي بين ضيوفٍ على شاشات التلفزيون المحلية، وبين الوضع الراهن في لبنان فارقٌ ملموس، فبينما كان التحريض المتبادَل سائداً إذا بالصمت والهدوء يحلّان في صيغ تعاون بين الأطراف نفسها، دون أي تبريرٍ كافٍ أو جهدٍ لتبريرٍ كاف.

دعني أوضح، دكتور محمد، منعاً لسوء التفاهم، أَنني سعيدٌ بهذه الهدنة الإقليميّة والدوليّة المفروضة على الساحة اللبنانية وأرجو أن تطول بعدما أسفرت حتى الآن، في الأشهر التي انصرمت على اغتيالكَ وتفجير السفارة الإيرانية، عن تشكيل حكومة جامعة، والأهم بالنسبة لي، والأكيد بالنسبة لكَ أكثر مني، هو الهدوء الشامل على جبهة الحرب الطائفيّة في طرابلس الشام بعد سنوات من اقتتالٍ ضحاياه فقراؤها فقط. كما آمَلُ أن تٌسفِر عن الاتفاق، الخارجي طبعاً، على رئيسٍ للجمهورية.

ومع أنه يليق بأمثالكَ من المتنوِّرين أن يُمنَحوا فرصةَ وضعِ كفاءاتهم التكنوقراطية العالية في خدمة لبنان السلام، كما حصل معكَ قبل عام 2005، فقد شاءت غيوم اللعنة المديدة على لبنان (وقد أصبحتْ لعنةً تكوينيّةً!) أن تجعل منكَ، أي من دمائكَ الحد الفاصل بين “الحرب” التعبوية السابقة وبين الهدنة، وهذا ظلمٌ شديدٌ من الأقدار أن يكون أمثالك من المسالمين وقودٓ حربٍ بينما لا يزال هناك محاربون متربصون بالسلام.

عَرَفْتُكَ في مناسبات قليلة كان آخرها قبل أقل من سنتين في منزل رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة دعا إليه وجوهاً سنية وشيعية، وقلتُ فيه يومها أنه رغم اختلاف أحزاب كبيرة في بنيتها ونوع ارتباطاتها فإنها تشبه بعضها من زاوية التحريض الطائفي فأجبتني بتهذيبٍ وهدوءٍ يبدوان من طبعكَ أنكَ لا توافقني الرأي وأنه يجب النظر إلى الأحزاب من زاوية تكوينها ومشاريعها.

كتب عنكَ السفير جيفري فيلتمان بعد اغتيالك في مقالٍ له في “الدايلي ستار” اللبنانية أنك الرجل الذي كان يصيغ المواقف الجريئة القوية بلغة معتدلة. وقال عنك الصديق المحامي محمد مطر في مرافعته أمام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في الجلسة الافتتاحية، المرافعة المليئة بالاستشهادات الشخصية كما باستشهاداتٍ في فقه القانون، ما معناه، وأرجو أن لا تخونني ذاكرتي، أنكَ كنتَ مهتمّاً بالمسائل الفكرية وتجمعكَ به حوارات.
العبرة التي أظنّها بليغةً هنا، وهي محرِّضتي على هذه الرسالة بواسطتكَ إلى أمثالكَ من المدنيين الأحياء، إذا كان السلام هدفاً فردياً وجَماعياً طبيعياً للبشر، فإن للحرب غوايتَها التي تجعل من الموت أحيانا ما يشبه التعرّض لخدعة.

لا يقولنّ لي أحدٌ أو يسألني لماذا “تَعُود” الآن إلى هذا الحدث، فأنا أشعر أنني أتقدّم إلى الذكرى ولا أعود إليها، لأن ضحايا التوترات السياسية والتفجيرات والاغتيالات على أنواعها هي الشاهد الدائم والذي ينبغي تجديدُ ذكراه لكيف تكون مشاريعُ الحروبِ الأهلية والحروب الممتطيةِ الحروبَ الأهليّة مشاريعَ لا تدميرٍ فقط بل هي مشاريعُ هدرٍ للطاقات وحرمانٍ للبلد من مستقبله. مع ذلك ورغم قناعتي الوطيدة هذه، فإنني أصارحكَ أنني لا أعرف بالضبط مع اقتراب الموعد الدستوري للاستحقاق الرئاسي في ٢٥ أيار الجاري لماذا هناك ثمة ما يوجب التوجّه إليك ويلحّ عليّ لكتابة هذه الرسالة؟

لا أحتاج أن يُخبرني أحدٌ، ولو لمْ أعْرفك عن قرب، إلى أي بلد متطوِّرٍ كنتَ تطمح لأولادك وللبنانيين، أرجو أن تستمر معجزة القرار الدولي والإقليمي بمنع الانفجار الكامل في لبنان، وأن يتحوّل السياسيون اللبنانيون إلى “عملاء سلام” بالمعنى الإيجابي الأعمق.

السابق
’السفير’: مؤشرات رئاسية سلبية
التالي
الأسد لم يعد ’الناخب’ الأحادي