هل من تفضيل أميركي في الانتخابات الرئاسية اللبنانية؟

ديفيد هيل

لا يختلف اللبنانيون في اقتناعهم بأن قرار انتخاب رئيس جديد لجمهوريتهم أمر تتداخل فيه الآراء الخارجية، وإن كانوا بالتأكيد على خلاف في تحديد أصحاب هذه الآراء والأوزان الفعلية لكل منها. وإذا كانت ثمة صيغة اختزالية متداولة فهي التي تجعل الرأيين الأكثر تأثيراً ما يتشكل في كل من طهران وواشنطن، وغالباً ما يدرج ذلك في إطار تفاوض الحكومتين الإيرانية والأميركية حول صفقة بينهما. وإذا كان ثمة ما يشير إلى صحة بعض مقومات هذه القراءة، فإنها تأتي مشوبة بما هو على الغالب تضخيم فائق لعناصرها، بناءً على أمنيات بعضهم ومخاوف بعضهم الآخر.
لا شك في أنه كان للبنان، ولربما على امتداد تاريخه كدولة مستقلة، نوع من «مجلس إدارة» من الدول المعنية بأمره أو المؤثرة في شؤونه، واستقراره كان دوماً مشروطاً بمدى نجاح أعضاء هذا المجلس الافتراضي بالحفاظ على مقدار من التوافق بينهم. وإذا كان النظام السوري حتى أمس قريب أبرز أعضاء هذا «المجلس»، فإنه منذ انشغاله بمعركة البقاء بأي ثمن، انحسر تأثيره، بل جيّرت فعاليته عملياً لمصلحة إيران، بعدما كان هذا النظام يحجبها عن الدور المؤثر الظاهر، بصفته حليفها الدائم الذي يستوجب الإقرار بأولويته في الشأن اللبناني. فالعضو الأبرز في «مجلس الإدارة» للبنان اليوم هو حتماً إيران، وصولاً إلى أن طهران- لتأكيد نفوذها في لبنان- تخلت عن معظم اعتبارات التمويه والدقة في تشكيل صورة أداتها المحلية، أي «حزب الله»، كمنظومة سياسية عسكرية، مرجحة تمكين هذه المنظومة من فرض النفوذ المادي محلياً في لبنان على طموحات توسيع دائرة نفوذه المعنوي في المنطقة ككل. وبعد إيران، تأتي المملكة العربية السعودية، صاحبة التأثير الثابت، تتبعها عن بعد فرنسا، في اهتمامها المستمر، ولكن الأقل انصباباً وتأثيراً، ثم الولايات المتحدة بحكم موقعها كقوة عظمى وحيدة في العالم، وإن كان دورها الفعلي في الملف اللبناني ضئيلاً حتى مقارنة بالدور الفرنسي المتواضع.
وعلى رغم غياب العوامل الموضوعية التي ترتقي بالشأن اللبناني إلى أولوية في الاهتمام الأميركي، فما كانت توليه واشنطن من اهتمام، رغم محدوديته، كان بحكم نفوذها ومكانتها لدى جميع الأفرقاء، فاعلاً ومؤثراً بل حاسماً في أكثر من مناسبة على مدى التاريخ. يذكر في هذا الصدد استعداد واشنطن مطلع التسعينات للتسليم بأستاذية النظام السوري على الواقع اللبناني، وهو تسليم جاء من وجهة نظر أميركية لاعتبارات آنية وعرضية تتعلق أساساً بتطويق العراق، لكنه كان ذا أثر بالغ في مسار الحياة السياسية في لبنان على مدى عقد ونيّف.
والخطر الفعلي الذي يعيشه لبنان اليوم أن تتكرر المعادلة، وإن مع طرف آخر، أي أن يتلوّن الموقف الأميركي إزاء الانتخابات الرئاسية اللبنانية باعتبارات المرحلة وما يجري خلالها من تفاوض متحقق وضمني مع إيران، فترضى واشنطن فعلياً بدور أكثر قطعية للنفوذ الإيراني في مقابل مكاسب إزاء طهران في مواضيع أخرى. وإذا كان هذا الخطر قائماً، وجسامته تستوجب المتابعة الحازمة، فإن تحققه ليس أمراً محسوماً، ولا حتى راجحاً وفق المعطيات المتواترة، على رغم أن لبعضهم مصلحة واضحة في التصرف على أساس أن صفقة ما تمّت بين طهران وواشنطن في الشأن اللبناني، لما يؤدي إليه هذا الترويج من الدفع في اتجاه تموضعات تسهّل حصول ما يفترض أن هذه الصفقة تنطوي عليه.
وصياغة القرار الأميركي في الشأن اللبناني، كما في غيره، تتشكل تدرجاً على ثلاثة مستويات، أدناها عيون الحكومة الأميركية وآذانها في لبنان ولدى حلفائها المعنيين بشأنه، وفي طليعتها طبعاً السفارات، وأوسطها المنظومة الثابتة لمتابعة السياسة الخارجية الأميركية في واشنطن، وفي شكل خاص وزارة الخارجية مع تأثير واضح لوزارة الدفاع وللمؤسسة الاستخباراتية، وأعلاها وأهمها رأس هرم السلطة التنفيذية، أي مجلس الأمن الوطني والبيت الأبيض والرئيس. والمعتاد، من وجهة نظر محلية لبنانية إلحاق العناية والمتابعة الدقيقة التي تبديها فعاليات المستوى الأول بكامل تشكيلة صياغة القرار الأميركي، فيبدو كأن واشنطن بأكملها مستهلَكة بالهمّ اللبناني، في حين أن التفات واشنطن، في مستواها الأعلى، إلى هذا الشــأن لا يتجــاوز لحظات.
فتوزيع اهتمام الرئيس والبيت الأبيض بالشؤون الخارجية قائم على ارتباطها الموضوعي بالمصالح الوطنية للولايات المتحدة، واعتماد هذا المستوى الأعلى هو على المستويين الأدنَيَيْن بتقديم الخيارات التي على الرئيس وطاقمه حسم الموقف منها.
هنا قد يكمن بعض الصحة في الرواية التي تروّجها الصحافة اللبنانية حول تفضيل أميركي للعماد ميشال عون كرئيس عتيد للجمهورية اللبنانية، إذ ثمة تصوران قيد التداول في أوساط صياغة القرار، ما دون المستوى الأعلى، يلتقيان على تقويم إيجابي لرئاسة يتولاها العماد عون… أولهما يرى في شخصه مدخلاً إلى تواصل غير مباشر مع «حزب الله» بهدف ضبط قوته الضاربة وربما تمييعها، والآخر يعتبر أن تولية عون الرئاسة تسمح بفك تحالفه مع الحزب وتشكيل أكثرية لبنانية جديدة تخرج لبنان من نطاق النفوذ الإيراني. وواضح بالتالي أنه، في ما يتعدى الالتقاء على اسم الرئيس الجديد، فإن الاختلاف عميق في ماهية دوره وكيفية الاستفادة منه. ثم إن هاتين القراءتين، وإن كانتا الأكثر تفصيلاً من حيث تسمية الرئيس، لا تنفردان في إشغال المساحة البسيطة المخصصة للبنان لدى دوائر صياغة القرار الأميركي، مجدداً دون المستوى الأعلى.
بل ثمة قراءة أخرى أقل إقداماً تشير إلى صعوبة تحقيق أي اختراق في تبديل موازين القوى من دون زعزعة الاستقرار الهش في لبنان، وتجنح بالتالي إلى تفضيل النأي بالنفس أميركياً في هذا الموضوع وتفويض بتّه للحليف الفرنسي والشريك السعودي.
الفصل بين هذه القراءات يكون في نهاية المطاف في يد الرئيس الأميركي، إلا أن ثمة أموراً أكثر إلحاحاً تشغل اهتمامه. وفي ذلك، في آن، ترجيح لخيار التفويض، إنما أيضاً تعريض المسألة لاختبار قد ينطوي على مقدار من الاعتباط.

السابق
منصور: باسيل اعادنا بالذاكرة الى زمن السياسة الفرعونية
التالي
سليمان يترأس اليوم الجلسة الـ18 والأخيرة لـ’الحوار الوطني’ اللبناني