خصوصية الديموقراطية اللبنانية

الديموقراطية

للديموقراطية اللبنانية “خصوصية” عجيبة، لا تجد شبيها لها، ولا قرينة. وكل مرة، في ذروتها، أي في الإنتخابات، تعبر هذه الديموقراطية عن تفرّد لا قاموس له ولا تفسير؛ مثل مسرح الظل الإيمائي، الصامت، المعتمد على الفهم المشفَّر، على الحدس، أو على تدبّر في الكواليس. الإنتخابات الرئاسية الأخيرة زوّدت هذا المسرح بالمزيد من التيمات التي يمكن أن يستغلها في عروض قادمة. إليكم بعض ملامحها الرائعة:
“المرشح” لهذه الانتخابات شبح متعدد الوجوه والهويات: فهناك مرشح علني، وآخر ضمني، وأخير نصف ضمني. وهناك مرشح رسمي، شفاهي، موعود، جدي، غير جدي، جديد، مزْمن…
هناك مرشح لا معنى للأرقام التي وضعت اسمه؛ لا تقترع له الأصوات، من دون التأكد، في سرها، إنه لن يفوز. انه مرشح الإختبار، أو بالون الإختبار، أو التغطية، أو التمرين على التصويت، أو تمرير الوقت… حتى “ينضج” الرئيس الحقيقي. وهناك مرشح يُقترع له من دون ان يترشح… رسمياً، بالأوراق البيضاء، بالإنسحاب، بتطيير جلسة الانتخاب نفسها، بعدم الحضور أصلاً؛ وفي هذا الترشح الضمني أيضاً، لا يكون مطلوبا منه غير عدم الفوز… فالمعسكران المتخاصمان متفقان على عدم جدية مرشحيهما… هكذا تصل المسرحية الى واحدة من ذرواتها الدرامية: مرشح من معسكر، يبقى من دون إعلان رسمي، فيما إعلاميا يسوق لمرشح آخر، أكثر جدية، هو أبعد من هذا المعسكر. يقابله مرشح سري آخر للمعسكر النظير. وفي الحالتين، نحن أمام مرشحين “أقوياء في طوائفهم”، بل زعماء، ومع ذلك، هم منسجمون باللعبة، لعلهم، بمجرد الخوض في مزحة الترشح، يتكرسون رؤساء أبديين، جنباً إلى جنب مع قليل الحظ الذي لن يكون رئيساً إلا ست سنوات يتيمة.
والجمهورية اللبنانية السعيدة لها من الوقت ما يسمح بتفصيل المسرحية على الوتيرة التي تسير بها “أحداث المنطقة”، أي الحرب الهادرة تحت أقدامها. لديها الوقت والموارد ما يكفي لتزويد هذه المسرحية بالمزيد من المشاهد، بتعقيداتها، باستحداث الإيحاءات المشفَّرة الجديدة، بالإجتهاد في دستورية مماطلتها، بالإكتشافات القانونية الثمينة، بكسر القانون، بمدّ حباله، أو تقطيعها، بتطيير النصاب، باللعب على قانونيته، بالتلاعب بالذاكرة المجروحة، بنبش القبور والقبور المضادة، بإغلاق الطرق المفضية الى المجلس، بشلّ البلاد، أربعاء بعد أربعاء… ولا تكتمل الفصول المتتالية من المسرحية من دون وجود العرافة في إحدى زوايا خشبته، تحرق البخور، وتلفظ بنبؤتها، تكررها، نفهم من شفاهها انه فلان الفلاني، هو الذي سيكون رئيس لبنان؛ فيما زملاؤها في وسط المسرح، لا يبالون بما تقول… يواصلون ممارستهم لـ”واجبهم الإنتخابي”، بإيماءاتهم الملغَّزة… كلها حركة، بركتها الوحيدة انها سوف تزوّد الأرشيف الصوري بوثائق عن مجلس تراقص على حبال الهواء ولم يفز، بعد نجاته من هول الفشل، إلا برئيس “يتوافق” عليه الناخبون الحقيقيون، البعيدون، حتى عن الكواليس، هم الذين يتفقون على من يكون الرئيس اللبناني المقبل، بناء على ما توصلوا إليه من نتائج. الحرب في سوريا، المفاوضات النووية الأميركية الإيرانية… ولكن، ما همّ؟ المكسب الوحيد حتى الآن ان المسرحية لا تشهد سفكا للدماء…
لبنان بهذه المنهجية الإنتخابية يقف بعيدا خلف الديكتاتوريات، من دون الإنتباه ان اسطوانته ما زالت تتغنى بـ”ديموقراطية” نظامه. فحتى في أعتى هذه الديكتاتوريات، تعرف من هو المرشح للرئاسة، تعرف ان هذا المرشح سوف يربح حتما، فيرتّب الإنتهازيون أمورهم المقبلة. ولبنان هو البلد الذي يشترك مع الانظمة الديكتاتورية بأنه إذا عرف من هو حقا المرشح المتوافق عليه بعد رقصات طويلة مع الهواء، فان هذا المرشح هو الذي سيكون رئيساً، وسوف يصوت له مشرحون سابقون كانوا أكثر “جدية” منه، أكثر “حيثية”، أكثر ظهوراً على الشاشة. فالواقع انه، في ظل ديموقراطيته الديكتاتورية هذه، لا ينتخب لبنان إلا مرشحاً واحداً، هو محصلة توازن، أو عدم توازن للقوى، بين كبار العالم والمنطقة… وكل الباقي ظلال صينية، كلامها لا يقدم ولا يؤخر في فهم ما يحصل فيها… فقط الإيحاءات… الشيفرة، الرمز، اللُغْز، التبصير،الحزّورة…

السابق
حزب الله يعمم على الاعلاميين عدم نشر صور نعي مقاتليه
التالي
قوى الامن: كشف هوية سارق منزل في كفرنبرخ والقبض عليه