السیاسة الخارجیة الايرانية بعهد الرئیس روحانی

تعتبر السیاسة الخارجیة من الأمور البالغة الأهمیة والخطورة فی حیاة وسلوکیات وإدارة جمیع الشعوب والحکومات فی العالم. وتماشیاً مع التعقیدات التی بدأت ترافق العلاقات بین بلدان العالم فی الأعوام الأخیرة أخذت اهمیة هذه العلاقات تبرز أکثر فأکثر. ومما یزید من تعقید الأمر التزاید الذی لا یمکن تجنبه فی عدد اللاعبین على الساحة الدولیة ومن ضمنهم مؤسسات غیر حکومیة وحتى بعض الأشخاص، الأمر الذی یزید من صعوبة وضع السیاسات. وفی نفس الوقت ومع إستمرار العولمة- مهما کان الإنطباع السائد عنها وکیفما فسرت أو عرّفت وسواء إمتدحت أم إنتقدت – فإن هذه الظاهرة قد کان لها تأثیرها الحتمی غیر القابل للإجتناب على السیاسة الخارجیة للبلدان کبیرها وصغیرها، النامیة منها أو المتطورة.
الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة ومنذ بدایة تأسیسها عام 1979عبر ثورة جماهیریة واجهت ولازالت تواجه تحدیات کهذه. فالسیاسة الخارجیة الإیرانیة بعد الثورة ارتکزت على عدد من الأسس والمبادئ والأهداف المحببة والتی نص علیها دستور البلاد، ومن هذه الأسس؛ صیانة إستقلال البلاد والحفاظ على سیادتها الوطنیة وصیانة أمنها القومی وتحقیق التنمیة المستدیمة طویلة الأمد. أما على الصعید الخارجی فما تسعى إلیه إیران یتمثل فی تعزیز مکانتها على الصعیدین الإقلیمی والعالمی، والعمل على تحقیق تطلعاتها ومنها إرساء مبادئ الدیمقراطیة الإسلامیة، وتوسیع العلاقات الثنائیة والمتعددة الجوانب خاصة مع دول الجوار الإسلامیة والدول غیر المنحازة، والتخفیف من حدة التوتر ومعالجة الخلافات مع باقی البلدان، والعمل على إرساء قواعد السلام والأمن على المستویین الإقلیمی والدولی عبر إتخاذ طرق إیجابیة فی التعامل مع القضایا، وتشجیع التفاهم عبر الحوار الدولی والتعامل الثقافی.

إیران فی العالم المتعدد الأقطاب

مع إنتهاء الحرب الباردة وإنحلال العالم الثنائی القطبیة فی بدایة عقد التسعینات من القرن الماضی، واجه النظام العالمی تغییرات أساسیة فی ترکیبته. إلا أنه لم یظهر لحد الآن نظام جدید یمکن أن یعوّل علیه. وکما هو الحال مع أیة فترة إنتقالیة، فإن الوضع الإنتقالی الراهن والمعقد والمتزلزل الذی تمر به القضایا على الساحة الدولیة هو وضع خطیر للغایة ویمثل تحدیاً جدیراً بالالتفات. إن ما تمیزت به المراحل الإنتقالیة السابقة من تعقیدات کان السبب فیها عادة التنافس العسکری المحتدم الذی کان یصل إلى درجة الحرب المعلنة بین القوى العظمى المتحکمة فی العالم فی حینها. أما فی عصرنا الحاضر ورغم وجود تنافس شدید محتدم من نفس الشکل، إلا أن هناک أسباباً تحول دون أن یتخذ هذا التنافس شکلاً عسکریاً إنما ییبقى بشکل مدنی، ومن هذه الأسباب التغیر الکبیر الحاصل فی الأجواء العالمیة، والتحول الحاصل فی طبیعة القدرة، وتنوع وزیادة اللاعبین على المستوى الحکومی وغیر الحکومی.
إن مفهوم القدرة الذی عادة ما یفهم بشکل تقلیدی بالقدرة العسکریة، شهد فی العصر الحدیث تغیراً إلى حد ما. فقد ظهرت للوجود أشکال جدیدة من النفوذ – الإقتصادی، التقنی والثقافی-. وتزامن ذلک مع حدوث تحولات على مستوى المفاهیم والمکونات الثقافیة ومعانی القدرة، ما کان سبباً فی إمکانیة وصول عدد أکبر من اللاعبین إلى مصادر القدرة. إضافة لذلک فإن النضج التدریجی والمتعدد الجوانب الذی شهده العالم فی الفترة التی أعقبت الحرب العالمیة الثانیة عزز من أهمیة المبادئ والإجماع الدولی.
وبالرغم من حدوث هذه التغییرات الأساسیة فی ترکیبة النظام العالمی فإن بقایا وفلول النظام السابق یبذلون جهدهم للحفاظ على أطلال الماضی على ما هی علیه.
لقد شهدت نهایات عقد الثمانینات وبدایات التسعینات من القرن الماضی ظهور نظریات فی الولایات المتحدة الأمیرکیة محتواها الرئیس یدور حول نهایة العالم وآخر الزمان مثل (نهایة العالم) و(صراع الحضارات)، وکان ظهور هذه النظریات بمثابة ردة فعل عاجلة تجاه الفراغ الحاصل بعد إنتهاء الحرب الباردة ونتیجة (فقدان الخصم) وظهور المسلمین کقوة جدیدة فی العالم.
وتبعاً لذلک بدأ بعض الغربیین محاولات لتخویف العالم من المسلمین وإعطاء صورة قاتمة عنهم وتصویرهم فی صورة العدو الأیدیولوجی الجدید على المستوى العالمی، حتى أن بعضهم بدأ یتخذ هذا السلوک بمثابة السیاسة الرسمیة المتخذة من قبل الحکومة وقاموا بمتابعتها بصورة منتظمة.

إلا أن العالم الیوم لا یسیر فی طریق الإبتعاد والتنافر وإنما أصبح یسیر نحو طریق التضامن المتبادل. فقد کان الوضع فی الماضی بشکل بحیث کانت القوى العظمى السابقة والجدیدة هی التی تفرض سیاستها الأحادیة الجانب على العالم، إلا انه ثبت فشله بعد أن وصل الى طریق مسدود وأصیب بالشلل التام. لذلک یلاحظ الیوم ان الغالبیة العظمى من بلدان وشعوب العالم وبغضّ النظر عن المساحة والقدرة والنفود وغیر ذلک من الخصائص التی تختص بها، وعلى عکس ما کان علیه الوضع فی السابق، بدأت تدرک بان العزلة مهما کان نوعها سواء کانت طوعیة وإرادیة أم مفروضة على البلد أو الشعب لم تعد تعتبر امتیازاً لذلک البلد. فقد أصبح العمل الجماعی والتعاون هو السمة البارزة التی تتناسب مع متطلبات الزمن المعاصر.

إن إتخاذ السیاسة المتعددة الجوانب بمفهوم البحث الجماعی عن حلول مشترکة للمشاکل المشترکة، قد أثبتت فاعلیتها على الصعیدین الإقلیمی والدولی. حتى أن القوى الکبرى أدرکت، ولو على مضض، بأنه لیس بمقدورها أن تفکر بمصالح فردیة فقط بمنأى عن الآخرین. أو تحقیق أهداف خاصة بها.

إن عملیة التآلف التی تسیر بشکل تدریجی ولکن بصورة متزایدة فی نفس الوقت على المستویین الإقلیمی والعالمی، سواء کانت لإغراض قصیرة أو طویلة الأمد تحظى بالإقبال والدعم. أن التعاون الطوعی والإداری بإعتباره نموذجاً جدیداً للتعامل بین الدول ظهر بشکل تدریجی وحل محل أسلوب المواجهة، والاستسلام غیر المشروط أو المنافسة الدائمة، الذی کان الأنموذج السائد فی الماضی والذی فقد فاعلیتة فی العصر الحالی.
إن نظریة متابعة اللعبة أو فرضها بحیث تکون بدون نتیجة ایجابیة، قد فقدت بریقها الیوم وهذا یمکن اعتباره من النتائج التی لا یمکن تجنبها للعولمة ومحصلة العمل الجماعی والتعاون.
ومع کل ما ذُکر، فإن هناک بعض اللاعبین مازالوا متمسکین بعاداتهم القدیمة ویحاولون تحقیق مصالحهم وصیانتها على حساب إلحاق الضرر بالآخرین. إن إصرار بعض القوى العظمى على ممارسة اللعبة التی حاصل جمعها هو الصفر، من شأنه أن یؤدی إلى تغییر نتیجة اللعبة من ربح – ربح لتصبح خسارة – خسارة لجمیع المشارکین فیها.

إن الولایات المتحدة الأمیرکیة التی وضعت نفسها فی موقف جعلها تتعرض للتحدی من قبل العالم بأسره الیوم رغم ما تملکه من القدرة العسکریة هو أبرز مثال على ما ذکرناه. فالذی تواجهه امیرکا عملیاً وبصورة مباشرة فی مناطق مختلفة من العالم ومنها منطقة الشرق الأوسط وبجوار إیران على وجه الخصوص، هو دلیل واضح على إنحراف واشنطن نحو إتخاذ سیاسة الإئتلاف مع القوى العالمیة الأخرى، بل وحتى بعض اللاعبین الإقلیمیین. کما یلاحظ أن هناک مساع حثیثة ومنسجمة تقوم بها کل من الصین والهند وروسیا حیث تتنافس بشدة مع المعسکر الغربی للحصول على دور أکبر وأکثر فاعلیة على الصعید العالمی. ومهما یکن الحال، فإن القوى العظمى والقوى الجدیدة الأخرى التی بدأت بالظهور لا ترغب باستخدام الأداة العسکریة لإثبات قدراتها وحل مشاکلها بل وحتى حل صراعاتها ونزاعاتها مع المنافسین.

أدى هذا الأمر الى ظهور تدریجی لتوجه یدعو الى نظرة اصلاحیة فی السیاسة الخارجیة عامة. فبغض النظر عن موقعها وقدراتها، تسعى الحکومات والشعوب الیوم الى تعزیز مواقعها وتحقیق أهدافها وتطلعاتها من خلال ترکیبة متعادلة مؤلفة من المنافسة والتعاون. فالمنافسة القاتلة التی کانت سائدة فی الماضی والتی کانت نتیجة ممارسة العنف والجبروت والقوة، بدأت تزول تدریجیاً وتحل محلها أشکال من التعامل الثقافی والمفاهیم الفکریة. إن عدم الثقة فی المرحلة الإنتقالیة الحالیة لها آثار سلبیة على السلوک العالمی. فإذا أخطأت الدول فی تقییم وتقدیر قدرات الآخرین فقد یؤدی ذلک الى ضرر کبیر لجمیع الأطراف. أن الخطورة الذاتیة للأوضاع فی ظل الظروف الراهنة تتطلب من الحکومات ان تستند على التحلیل العینی وأن تقوم بتقییم وتقدیر دقیق لقدراتها وامکانیاتها فضلاً عن تقییم نوایا والسلوک المحتمل للآخرین.

إن جمیع الدول بإمکانها استغلال هذه المرحلة الإنتقالیة فی سبیل تحقیق ما تصبو الیه من طموحات ومصالح. وعلى الحکومات ان تقوم بإجراء حسابات وتقییمات تستند الى الواقع بشأن المزایا النسبیة ومواضع الضعف التی من الممکن أن تصاب بالضرر اذا ما تعرضت لضربة ما، والأهم من ذلک وضع وتدوین مجموعة واضحة من الأهداف والخطط لنفسها.
ومنذ نهایة الحرب الباردة وعلى مدى العقود الأخیرة الماضیة فإن البلدان التی إتخذت سیاسة خارجیة متعادلة ومدروسة بدقة حظیت بنجاح أکبر فی رفع مکانتها على الصعیدین الاقلیمی والدولی، اما تلک التی افتقدت لفهم وإدراک صحیح للأجواء السائدة فی العالم وقامت بإنتهاج سیاسات مبنیة على حسابات وتقییمات غیر صائبة، فهی إما فقدت مکانتها التی کانت علیها فی الماضی، أو أزیحت عن موقعها جانباً.

تفعیل طاقات إیران الکامنة

فی خضم الأجواء السیاسیة العالمیة المتوترة والمشحونة فإن إیران تحتل موقعاً خاصاً فی هذه المرحلة الإنتقالیة باعتبارها قوة إقلیمیة ثابتة. فمساحة أراضیها الشاسعة، وموقعها الجغرافی الإستثنائی على خط ترانزیت الشرق – الغرب منح إیران منذ القدم ولحد الآن مکانة هامة فی المنطقة وماوراءها.
ورغم أن حضارة إیران وتراثها الثقافی بقیا خالدین، الا أن اوضاعها السیاسیة والإقتصادیة عانت الکثیر من التذبذب من عصر الى آخر، وقد أثرت الحالة السیاسیة على الإدارة الداخلیة للبلاد وعلى العلاقات مع الخارج تبعاً لذلک.
إن إنتصار الثورة الجماهیریة، الشاملة والمناهضة للنظام الملکی عام 1979 بإیدیولوجیة مرکبة من الفکر الجمهوری والفکر الإسلامی، أدى الى خلق نظام ثوری جدید فی البلاد، کانت له آثار ونتائج عمیقة لم تتجاوز دول الجوار فقط، إنما تعدتها الى سائر إنحاء منطقة الشرق الأوسط الکبیر وباقی مناطق العالم. وکان لها تأثیر واضح على علاقات إیران الخارجیة.

إن التحلیل المنطقی للخصائص والقابلیات الرائعة التی تمتاز بها إیران على صعید هذه المنطقة المحیطة بها المشحونة بأنواع التوتر، من شأنه الکشف عن الطاقات الکامنة العالیة التی تمتلکها إیران والتی تؤهلها للقیام بدور بارز على المستویین الإقلیمی والعالمی. فالجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة بإمکانها المساهمة بالسلام والأمن والإستقرار فی المنطقة، والقیام بدور بارز فی المرحلة الإنتقالیة الحالیة فی مجال العلاقات الدولیة.
وفی ظل الأهمیة المتزایدة للسلوکیات والعوامل المفهومیة فی السیاسة الخارجیة، ومع الأخذ بنظر الإعتبار التراث الحضاری الذی یعود تاریخه لبضعة آلاف من السنین، والثقافة الإیرانیة وتراث الثورة الإسلامیة الملفت للإنتباه، وخاصة فیما یتعلق بأنموذج الحکم المحلی والمشترک، فإن کل ذلک منح الجمهوریة الإسلامیة مکانة متمیزة. إن إیران بإمکانها استغلال نقاط القوة هذه لتحقیق ما تصبو الیه من طموحات عمیقة ووطنیة للشعب الإیرانی. ومنها تحقیق التطور البعید المدى والإقتدار على الصعید الإقلیمی بما یتناسب مع الطاقات والقابلیات والمکانة الذاتیة التی تتمتع بها البلاد.

کما أن إیران تتمتع بعدد من الخصائص التاریخیة بإمکانها أن تصبح بمثابة مصدر فرید للفرص التی لم یتم إستغلالها بصورة مناسبة أو کاملة فی الماضی. على سبیل المثال: حافظت إیران على موقعها بعیداً عن القوى الخارجیة بصورة مستقلة کما حافظت على عدم إنحیازها بصورة عملیة مما جعلها حرّة فی إتخاذ قراراتها خاصة فی إطار النظام العالمی المتذبذب. کما بإمکان إیران الإستفادة من تقالیدها السیاسیة. حیث أختبرت بنجاح أنموذج للسیادة الوطنیة الدیمقراطیة المبنیة على التقدم وإستقرار دیمقراطیة دینیة نادرة فی العالم الحدیث. إن إیران أحدثت هویة ثقافیة لا مثیل لها نابعة من ترکیب نشط من الإیرانیة والإسلامیة وبواسطتها یمکن إیصال رسالتها الى کافة أنحاء العالم الإسلامی. إن إیران بمثابة مجتمع تاریخی یتمتع بتنوع طائفی ودینی ولغوی وهو نموذج للشمولیة السیاسیة. إن إیران استطاعت إن تحقق هذه النجاحات بالرغم من وقوعها فی منطقة حیویة وجیوستراتیجیة شهدت تأریخاً طویلا للتنافس وانواع التدخلات والنزاعات العسکریة الطویلة. وأخیراً فإن إیران لدیها طاقات کبیرة لإیصال صوتها الى العالم من خلال إبتداع سبل مثل (الحواربین الحضارات) الذی طرحه رئیس الجمهوریة محمد خاتمی والإقتراح الأخیر لرئیس الجمهوریة حسن روحانی حول (عالم ضد الفعنف والتطرف) والذی صادقت علیه الجمعیة العامة للأمم المتحدة فی شهر دیمسبر الماضی کقرار معتمد.

أن السیادة فی العالم الیوم تمثل تحدیاً کبیراً لکافة الدول بغض النظر عن مساحتها أو شکل أنظمتها السیاسیة أو موقعها الجغرافی أو مستوى التنمیة لدیها أو مدى إرتباطها مع العالم. إن إیران ومنذ القدم کان لدیها نظام حکومی بالرغم من بعض العصور التی تخللتها اضطرابات. وکان لدیها منذ ذلک الحین علاقات واسعة سواء خلال الحروب وایام السلم مع الدول المجاورة وبقیة القوى المتنافسة ولدیها ذاکرة جماعیة وغنیة وکنوز من التجارب الکبیرة، وإیران تجاور سبع دول من ناحیة البر والعدید من الدول عبر حدودها البحریة فی بحر قزوین والخلیج الفارسی بحیث تصبح مجموعها (11) دولة، ولذلک فإن إیران کانت محط أنظار الدول الساحلیة والقوى الخارجیة. ولذلک ومن ناحیة الأمن الوطنی والعلاقات الخارجیة فإن إیران تواجه قضایا متعددة. ان إیران تقع فی منطقة مشحونة بالأزمات. فقضیة إحتلال فلسطین منذ عقود وحتى الیوم والنزاعات الجاریة فی هذه المنطقة ترکت آثارها المدمرة على رخاء وتنمیة دول الشرق الاوسط کافة. الإضطرابات المزمنة وعدم الإستقرار وعملیات العنف فی هذه المنطقة خلال السنوات الأخیرة وبسبب سلسلة من التدخلات الأجنبیة العسکریة الطویلة، وخاصة فی افغانستان والعراق أدت الى المزید من تردی الأوضاع. ان الإنتفاضات السیاسیة فی العالم العربی منذ بدایات 2011، والاوضاع المأساویة التی تلتها، والتی وصفها البعض بدایة (بالربیع العربی) وآخرون وصفوها (بالصحوة الاسلامیة)، اضافت عاملاً آخر لعدم الإستقرار فی المنطقة. ویبدو ایضاً أن هذا الوضع سیستمر لمدة طویلة دون أن تکون هناک نتیجة واضحة لها.

وعلى ضوء هذه الصورة الشاملة للمنطقة والتفاعل الجاری بین اللاعبین. سواء فی الداخل أو من الخارج وعلى رأسهم الولایات المتحدة، فإن إیران تواجه الیوم عدداً من التحدیات الأساسیة فی علاقاتها الخارجیة. ومن الواضح أن نشیر هنا الى تصاعد حدة التوتر الذی یلقی بظلاله منذ عقود على إیران والولایات المتحدة نتیجة الموضوع النووی المعقد، فقد عقّدت هذه المسألة العلاقات بین إیران وعدد من جاراتها. وتزامنا مع ذلک اشتدت نشاطات اللاعبین غیر الحکومیین المتطرفین فی دول مثل افغانستان والعراق ولبنان وسوریا، والذین یشترکون فی عدائهم لإیران والمذهب الشیعی.
وبذلک ظهر توجه منسق یدعو الى: الخوف من الاسلام، الخوف من إیران والخوف من الشیعة، وهذا التوجه یعتبر إیران تهدیداً ضد السلام والأمن الإقلیمی. ویدعم هذا التوجه کافة الإدعاءات ضد إیران فی المنطقة ویعمل على تشویه سمعة إیران على الصعید الدولی وإضعاف موقعها الإقلیمی کما یعمل على تسلیح منافسی إیران فی المنطقة ومساندة القوى المعادیة لإیران بقوة، بمن فیهم حرکة طالبان وبقیة الحرکات المتطرفة بالإضافة الى إثارة الخلافات بین إیران وجاراتها.

الاعتدال والأمل

على ضوء الأجواء السائدة على الصعید الدولی، حقق روحانی فوزاً ساحقاً فی الانتخابات الرئاسیة الشدیدة التنافس فی یونیو 2013. حیث حصد 51% من الاصوات فی الجولة الاولى من الانتخابات فی مقابل خمسة مرشحین محافظین. أن لوحة روحانی السیاسیة تحمل طابع الاعتدال والأمل وهی بمثابة نقطة عطف هامة فی السیاسة الایرانیة. حقیقة ان 73% من المواطنین الایرانیین الذین یحق لهم الانتخاب قد شارکوا فی الانتخابات، تبین تجاوز الشعب والشریحة السیاسیة الإیرانیة، للأزمة التی خلفتها انتخابات 2009.
ان المواقف الموضوعیة لروحانی تجاه القضایا الخارجیة والداخلیة بعثت الإطمئنان للناخب الإیرانی. فالحملة الإنتخابیة لروحانی تباینت مع حملات منافسیه فی عدة نقاط: تحلیله الدقیق والواضح للأوضاع الجاریة فی ایران، شفافیته فی إیضاح التحدیات الأساسیة التی تواجه المجتمع والحکومة، ونهجه الصادق والصریح تجاه المشاکل وحلولها المحتملة. وعلیه تمکن روحانی من إستقطاب الشرائح المحبطة من المجتمع خلال الایام الأخیرة من الحملة الانتخابیة للمشارکة فی التصویت.

أن الصورة العامة للسیاسة الخارجیة لدى روحانی تعتمد على النقد المبدئی والدقیق والحکیم للعلاقات الخارجیة خلال السنوات الثمانی التی سبقت حکومته. وقد وعد روحانی بمعالجة الوضع المرفوض للقضایا من خلال إجراء إصلاحات أساسیة للسیاسة الخارجیة للبلاد. فالتغییرات التی طرحها روحانی تبین مدى ما یتمتع به من الفهم الموضوعی للنظام العالمی المعاصر والتحدیات الخارجیة التی تواجه الجمهوریة الإسلامیة وکذلک المتطلبات اللازمة من أجل عودة العلاقات بین إیران والخارج الى حالتها الطبیعیة. کما یدعو روحانی الى حوار الإعتدال. هذا التوجه یحاول بالإضافة الى المحافظة على الأمن الوطنی، العمل على الإرتقاء بمکانة البلاد وتحقق التقدم الشامل على الأمد الطویل، وتوجیه إیران نحو الحوار والتعاطی البناء والتفاهم بدل المواجهة، إضافة الى إنتهاج الواقعیة فی تفهم طبیعة وهیکلیة وآلیة القوة فی النظام الدولی والطاقات الکامنة والقیود الموجودة أمامها.

إن الإعتدال من وجهة نظر روحانی هو ترکیب من الإیمان العمیق بأهداف الجمهوریة الإسلامیة القیمة والتقییم الموضوعی للطاقات الحقیقیة والقدرات والمعوقات الوجودة فی ایران. أن مثل هذه النظرة تدعو الى الإبتعاد عن توجیه الإهانات وتحقیر الآخرین وتجنب الرؤیة الإستعلائیة. کما تشجع هذه النظرة الثقة بالنفس من خلال الإعتماد على المصادر المادیة والمعنویة الذاتیة مثل العقل الجماعی الحکیم للمواطنین. ان مثل هذه النظرة تولی أهمیة للإستجابة لمتطلبات الشعب بشفافیة وصدق وتبین الإستعداد لإجراء الاصلاحات وتحسین السیاسات الموجودة. ان توجه روحانی یتطلب جهوداً لتحقیق التوازن بین المتطلبات الوطنیة والإقلیمیة والدولیة من ناحیة وبین الطاقات والآلیات والسیاسات الموجودة من ناحیة أخرى. بین دیمومة ومرونة فی السیاسة الخارجیة وبین الأهداف والإمکانیات وبین الآلیات والأدوات المختلفة للسلطة فی العالم المتغیر دوما. وأخیراً فإن التزام روحانی بالتعامل البناء یتطلب حواراً وتفاعلاً مع بقیة الدول من موقع المساواة والإحترام المتبادل بهدف خدمة المصالح المشترکة. هذا التوجه یتطلب ان یبذل بقیة المتعاملین جهوداً جادة فی سبیل تقلیص التوتر وخلق الثقة والتوصل الى مرحلة من إزالة التوتر.

الطریق الى الامام

استناداً للإطار المفهومی الذی أشرنا الیه أعلاه، فإن السیاسة الخارجیة للجمهوریة الإسلامیة لدى الحکومة الحالیة تهدف الى حدوث تفاهم وإجماع على المستوى الوطنی والتعامل البناء والتعاون المؤثر مع الخارج. ان مبادئ العزّة والحکمة والمصلحة ستکون دلیلاً للسیاسة الإیرانیة. ان الهدف الإستراتیجی العام هو المحافظة وتعزیز الأمن الوطنی لإیران وأحباط أو إزالة التهدیدات الخارجیة ومکافحة نظرة الخوف من الإسلام والخوف من إیران، والإرتقاء بمکانة البلاد وتحقیق التقدم الشامل.

ووفقاً للحقیقة فإن وزارة الخارجیة ومن خلال التعامل الوثیق مع بقیة الأجهزة الحکومیة، تصبح بمثابة الجهاز المرکزی للتخطیط وتنفیذ السیاسة الخارجیة وقیادة الجمهوریة الإسلامیة فی خطوة أمامیة نحو تحقیق أهدافها المحوریة، الاول: ستعمل ایران على توسیع وتمتین علاقاتها الثنائیة والمتعددة الجوانب من خلال التعاطی مع طیف کبیر من الحکومات والمنظمات بما فیها المنظمات الاقتصادیة الدولیة. ان الارتباط المتعدد الجوانب سیکون محور العلاقات الخارجیة لایران، وهو أمر یتطلب التعاون من أجل بناء عالم سوّی والمشارکة فی ائتلاف مع الحکومات المنسجمة بهدف تحقیق السلام والاستقرار.
ثانیا: الدفاع عن الحقوق الفردیة والجماعیة للرعایا الایرانیین –اینما تواجدوا- وتحقیق وتعزیز الثقافة الایرانیة – الاسلامیة، واللغة الفارسیة والقیم الاسلامیة والدیمقراطیة الاسلامیة بصفتها إسلوباً للحکم.
ثالثا: ستواصل ایران دعمها للشعوب المظلومة فی کافة انحاء العالم وخاصة فی فلسطین، کما تواصل معارضتها المبدئیة للاعتداءات الصهیونیة فی العالم الاسلامی.

وعلى ضوء التحدیات الحالیة العاجلة، فان ایران ستولی اهتمامها بتحقیق أهدافها العاجلة، الأولى: احباط وفی النهایة الحاق الهزیمة بالتوجه الدولی المعادی لایران والذی تقوده اسرائیل وحماتها الامریکان من أجل إضفاء طابع أمنی على ایران، وبمعنى آخر إزالة الشرعیة عن الجمهوریة الاسلامیة من خلال إظهار ایران بمثابة تهدید ضد النظام العالمی. والاداة المستخدمة کذریعة لذلک هی البرنامج النووی السلمی لایران. حیث خلقوا من هذا البرنامج أزمة هی من وجهه ایران مختلقة بالکامل ویمکن ازالتها. ولهذا السبب أقدم روحانی ومن أجل تحطیم الطریق المسدود على الدخول فی مفاوضات مع مجموعة (5+1) (الصین وفرنسا وروسیا وبریطانیا والولایات المتحدة والمانیا) من أجل التوصل الى أرضیة مشترکة وحصول إتفاق على عدم الانتشار وفی نفس الوقت المحافظة على مکتسبات ایران العلمیة واحترام الحقوق القانونیة لایران وفقاً لمعاهدة عدم الانتشار النووی وانهاء الحظر الظالم الذی فرضته القوى الأجنبیة ضد ایران.

ایران لا ترغب بالسلاح النووی وهی على قناعة بان مثل هذه الأسلحة لا توفر الأمن لها. ان ایران لا تملک الامکانیات المفترضة للوصول الى مرحلة الردع النووی ضد اعدائها سواء بصورة مباشرة أو نیابة عن الآخرین، بالاضافة الى ان الحکومة الایرانیة تؤمن بأن الانطباع القائل بأن ایران تسعى وراء الأسلحة النوویة، هو یضر بأمنها وبدورها الاقلیمی. لان محاولات ایران للوصول الى تفوق استراتیجی فی الخلیج الفارسی سیثیر من دون شک ردود فعل تقلص من تفوقها العسکری التقلیدی فی هذه المنطقة.

وعلیه، فان المفاوضات الجاریة حول الموضوع النووی لا تواجه عقبات لا یمکن التغلب علیها. ان متطلبات النجاح تعتمد فقط على الارادة السیاسیة وحسن نوایا المفاوضین للتوصل الى اتفاق وتحقیق الهدف الذی جاء فی (خطة العمل المشترک) التی تمت المصادقة علیها فی جنیف فی نوفمبر من العام الماضی، حیث جاء فی الخطة:
(الهدف من هذه المفاوضات، التوصل الى حل شامل وطویل الأمد یتفق علیه الجمیع بصورة تضمن بقاء البرنامج النووی الایرانی بصورة سلمیة بالکامل). ان السرعة التی انتهت فیها الجولة الأولى من المفاوضات هی علامة ایجابیة للتوصل الى حل سریع لأزمة غیر ذات أهمیة وفتح آفاق دبلوماسیة جدیدة.
ان ایران ستسعى دوماً الى ازالة التهدیدات الخارجیة عبر حل القضایا العالقة مع بقیة العالم وخاصة دول الجوار. ان مبدأ بناء الثقة والتعاون سیکونان أساس السیاسة الاقلیمیة لایران. ولهذا السبب اقترحت ایران فی العام الماضی إتخاذ تدابیر أمنیة والتعاون فی منطقة الخلیج الفارسی، ان ایران بصفتها لاعباً اقلیمیاً مسؤولاً ستشارک بقوة فی کافة نشاطات التعاون الثنائی والاقلیمی ومتعدد الجوانب مع دول المنطقة بالاضافة الى التعاون فی مجال مکافحة التطرف والعنف.

کما ستعمل ایران وبحکمة على تحدید الخلافات فی وجهات النظر مع الولایات المتحدة والحیلولة دون ظهور المزید من التوتر اللاطائل منه معها. وبذلک ستتقلص تدریجیاً حدة التوتر.
کما ستعمل ایران على احیاء العلاقات السابقة مع الدول الاوروبیة وتعزیزها أکثر. ان عملیة التطبیع هذه ستکون على اساس الاحترام المتبادل والمصالح المشترکة. ویجب البدء بالقضایا ذات الاهتمام المتبادل. کما ستعمل ایران على تعزیز علاقاتها الودیة مع بقیة القوى الکبرى مثل الصین والهند وروسیا.
ان ایران التی تترأس حرکة عدم الانحیاز حتى عام 2015، تبسط یدها للقوى الناهضة حدیثاً فی عالم الیوم المتنامی، وتسعى الى تعبئة کافة طاقاتها الکامنة وبکل مسؤولیة للمساعدة فی تحقیق السلام والازدهار فی العالم.

ان الشعب الایرانی ومن خلال مشارکته الکبیرة فی الانتخابات الرئاسیة الماضیة وقراره الحاسم للتعاون البناء، قد منح فرصة استثنائیة للحکومة الجدیدة فی ایران وللعالم أیضاً من أجل السیر فی طریق مختلف وأکثر تفاؤلا للعلاقات الثنائیة ومتعددة الجوانب. ان الجمهوریة الاسلامیة الایرانیة عازمة على احترام خیار مواطنیها الذی سیکون ذا تأثیر کبیر على قضایا العالم.
ومن أجل نجاح ذلک، لابد على بقیة الدول الاعتراف بحقیقة الدور البارز لایران فی الشرق الأوسط وما بعده، والاقرار واحترام الحقوق الوطنیة والهواجس الأمنیة المشروعة لها. وکذلک من المهم ان تدرک بقیة الدول حساسیات الشعب الایرانی وخاصة فیما یتعلق بالعزّة الوطنیة والاستقلال ومکتسباته. وینبغی على الغرب وخاصة الامریکان ان یعیدوا النظر فی فهمهم لایران والشرق الأوسط وان یتوصلوا الى درک أفضل لحقائق المنطقة لکی یتجنبوا الاخطاء التی ارتکبوها سابقاً.
ومن الضروری ومن خلال إدارة شجاعة، استغلال هذه الفرصة التأریخیة – التی قد لا تتکرر ثانیة – وعدم إضاعتها.

السابق
تدابير سير على تقاطع صيدا
التالي
بري: أخشى أننا نقترب من الشغور