أزمة المعرفة في الفكر الأصوليّ الدينيّ

لا بدّ من التوضيح بدايةً أنّ المقصود بالأصوليّة الدينيّة في هذا الموضع لا ينحصر بتلك الحركات التي يكثر الكلام عليها وعنها حاليًّا في وسائل الإعلام المحليّة والإقليميّة والعالميّة.

الاصولية التي يلجأ أتباعُها إلى العنف المسلَّح في وجه كلِّ مَن يخالف عقيدتهم وأخلاقيّاتهم، بل يشمل أيضًا كلّ تيّار دينيّ أو سياسيّ أو اجتماعيّ يتّخذ من حرف النصّ الدينيّ ومن رؤية أخرويّة أو إسكاتولوجيّة معيّنة أساسَين لسلوكه وفهمه حضوره ودوره في مجتمعه وفي العالم.

تصطدم مُطلقيّة الفكر الأصوليّ النابعة من التمسّك بعصمة النصّ الدينيّ الذي يُفهم فهمًا حرفيًّا، والتقيّد بتفاسيره التقليديّة الجامدة، بنسبويّة الفكر المستنير والحديث الذي ينفي تلك المطلقيّة نفيًا تامًّا انطلاقًا من مبادئ النقد العلميّ للنصّ الدينيّ وتفاسيره المختلفة، واعتبار الحقيقة أُفقًا يستحيل ادّعاء تملّكه. وينبثق من هذه المواجهة الفكريّة رؤيتان متعارضتان للإنسان والعالم: رؤية أُولى قانونيّة-إسكاتولوجيّة تعكس ما تعتبره مشيئةً إلهيّة يجب أن تُطبَّق على الحياة البشريّة بكلّ حقولها من خلال وصايا وقوانين وأخلاقيّات لها صفة إلهيّة، تُلهمها نظرة إسكاتولوجيّة معيّنة؛ ورؤية ثانية علمانيّة-علميّة تربط غايات المجتمع والحياة البشريّة بالإنسان وتطوّره، وترفض كلَّ ما يُعَدُّ إرادة إلهيّة في إدارة شؤون الحياة البشريّة، وكلَّ أخلاقيّة مطلقة وإسكاتولوجيا تبقى مجرّد وهم. لذا، ليست الأصوليّة في نظر أصحاب الرؤية هذه إلاّ ظلامية بالمعنى الذي شاع في القرن الثامن عشر في أوروبّا وقُصد به أعداء التنوير الفكريّ ونشر المعرفة، وفي هذا الاتّهام تكمن فعليًّا أزمة الأصوليّة الأساسيّة.

فإنّ إشكاليّة المعرفة في الفكر الأصوليّ إزاء أسس المعرفة الناتجة من الرؤية العلمانيّة-العلميّة، تتّخذ بُعدًا مأسويًّا. إذ يؤدّي رفض الحياد الموضوعيّ والنقد الذاتيّ الشفّاف والعلميّ في مقاربة المسائل التاريخيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والأخلاقيّة، إلى انغلاق على رأي استبداديّ يتجلّى بأشكال تعصب متعدّدة قد تكون انسحابًا من العالم وشؤونه، أو موقفًا عقيمًا من الحوار مع أتباع الأديان الأخرى بسبب التمسّك بالحقيقة العقائديّة الـمُسَّلمة التي لا تقبل أيَّ تساؤل، أو لجوءًا إلى عنف جهاديّ أو خطابٍ تكفيريّ بغية القضاء على أعداء الله أو هدايتهم.

أوّلاً: مشكلة فهم النصّ الدينيّ ودور التقليد
يحرص كلّ مؤمن في أيّ دين كان على طاعة “كلمة الله” التي يجد فيها معالم طريقه نحو حياة أفضل له ولغيره. غير أنّ مشكلة القراءة الأصوليّة للنصّ تكمن في الفهم الحرفيّ لتلك الكلمة وترجمتها على أرض الواقع. فإذا ورد في النصّ الدينيّ مثلاً كلامٌ على عدم جواز أكل طعامٍ معيّن، فهذا قد يؤدّي بالأصوليّ ليس إلى حرمان نفسه من هذا الطعام حتّى لو مات جوعًا في حالات قصوى فحسب، بل إلى فرض الحكم على غيره أيضًا. فكلمة النصّ في نظره حكم إلهيّ لا يحتمل أيّ تفسير، وبالتالي حكم مُطلق، لم يَخضع بأيّ شكل من الأشكال لتأثير بشريّ. وبكلام آخر، تبقى كلمة النصّ مقدّسة ومحتّمة لا يجوز المساس بها؛ فكلمة النصّ هي موضوعيًّا كلمة الله.
وتندرج طريقة فهم التقليد العقائديّ ومتفرّعاته الأخلاقيّة في السياق نفسه. فيُهمَّش الطابعُ التفسيريّ للتقليد هذا. فلا يبقى التقليد تفسيرًا لـ”الأصل” أي النصّ الدينيّ، بل يتّحد به اتّحادًا تامًّا بحيث لا يُفهم الأصل إلاّ ضمن حدود التفسير الجامد. وبهذا المعنى يحلّ التفسير محلّ الأصل، إذ يتحوّل هو أيضًا إلى مطلق، بدل أن يكون مرنًا يؤوِّل الأصلَ تبعًا لضرورات تطوّر الحياة البشريّة التي تخلق بديناميّتها الذاتيّة أوضاعًا جديدة لا يمكن أن تتماشى والجمود أيًّا كان شكله. وبالتالي، يمكن القول إنّ الفكر الأصوليّ لا يعكس دور التقليد فحسب، بل يخونه أيضًا. فالتقليد بصفته تعبيرًا بكلام جديد عن الأصل أو، بكلام آخر، بصفته جهدًا بشريًّا مرتكزًا على الإيمان ليعبِّر صراحةً عمّا يُضمره الأصلُ في ضوء واقع جديد، هو تفكير مُفسِّر وظرفيّ بطبيعته. فهذا الجهد يعبِّر عن فكرة وليس عن شيء يمكن نقله من مكان إلى مكان أو من زمان إلى زمان من دون تغيير فيه. وبما أنّه يعبِّر عن فكرة، فهذا يفترض عملَ تفكير جديد، أي عمل التفكير في الكلمة الأصليّة وتفسيراتها اللاحقة من جديد، وفي ضوء طريقة تفكير جديدة. لذا، يعني التقليد تقدّمًا من طريق التفاعل مع الواقع المستجدّ من خلال نظرته إلى الماضي، فيخلق في الوقت عينه تواصلاً مع الماضي وانقطاعًا عنه يتمثّل بالجديد الذي يأتي به في حركة لا تتوقّف. أمّا الفكر الأصوليّ فيجعل من هذا التفكير أصلاً وينقله كأصل جامد ومُطلق.

ثانيًا: مشكلة فهم التاريخ والإسكاتولوجيا
يتضمّن كلّ دين بُعدًا إسكاتولوجيًّا له وقعه على طريقة فهم أتباع الأديان عالمهم الراهن وظروفه، وعلى طريقة سلوكهم إزاءها. ويمكن اعتبار أنّ ثمّة عناصر إسكاتولوجيّة مشتركة بين الأديان السماويّة، يمكن تلخيصها بنهاية العالم، أي بأنّ للعالم الماديّ نهاية، وأنّ هنالك دينونة إلهيّة في نهاية الحياة البشريّة أو نهاية العالم الماديّ. غير أنّ ثمّة اختلافًا بين دين ودين حول مَن وما يمهّد لتلك النهاية التامّة أو يمثّل بدايتها. فالإسكاتولوجيا اليهوديّة على سبيل المثال تتكلّم على الزمن المشيحيّ أو قدوم المشيح، والإسكاتولوجيا المسيحيّة تبرز موضوع مجيء المسيح الثاني، والإسكاتولوجيا الشيعيّة تتحدّث عن قدوم المهديّ. وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الإسكاتولوجيّات تخضع لتفاسير مختلفة وأحيانًا متباينة داخل الدين الواحد. غير أنّ الفكر الذي نشأ مع زمن الحداثة يطرح أسئلة جوهريّة لا سابق لها على البُعد الإسكاتولوجيّ التقليديّ، في ضوء الاكتشافات المتعلّقة بتطوّر الإنسان والعالم والتاريخ. ولعلّ من هذه الأسئلة الأشدّ حراجة هي التي تُطرح حول واقعيّة الانتظار الإسكاتولوجيّ، أي انتظار تدخّل إلهيّ يضع حدًّا لمسار التاريخ البشريّ أو يغيّره بطريقة مأسويّة أو سحريّة. ذلك أنّ استقلاليّة الإنسان والطبيعة تؤلّفان الحقيقة الراسخة في تطوّر التاريخ والكون.
وفي الواقع، فإنّ قدرة اللاهوتيّين في كلّ الأديان على القيام بنقد موضوعيّ للإسكاتولوجيا تبدو حاسمة لتحديد مكانة الدين ودوره الإيجابيّ في عالم يتأثّر بتزايد بالرؤية العلمانيّة-العلميّة. ولا ريب في أنّ عدم كفاية هذا النقد يُبقي على خطر أصوليّ كامن في صميم كلّ دين، ويغذّي التيّارات الأصوليّة التي يختلط في فكرها التاريخ والإسكاتولوجيا على نحو يُفرغ التاريخ من مضمونه. فالتاريخ مؤلّف من إعادة تكوين عناصر الماضي التي لا تنضب وقراءتها المتجدّدة في ضوء الاكتشافات وأوضاع الحاضر. أمّا الرؤية الإسكاتولوجيّة السائدة التي تنسجها في الوقت نفسه ذكريات مقدّسة سابقة لا يتغيّر معناها وحرف النصّ الدينيّ، فتتجاهل تعقيدات التاريخ الشديدة التي تنفي كلّ قراءة غائيّة مبسّطة للأحداث حتّى تلك المؤسِّسةُ منها للدين. كما تنفي كلَّ رؤية إسكاتولوجيّة تتجاوز حقيقة تطوّر التاريخ المرتبط بإرادة البشر والأحداث التي تنتج منها، وتُبرز بوضوح دور الوسيلة البشريّة الثقافيّة والفنيّة والتقنيّة وحدودها في نقل معرفة الماضي، بما فيها المعرفة الدينيّة، الأمر الذي يحول دون إضفاء أيّ صفة مطلقة على تلك المعرفة المنقولة.
تنغلق الأصوليّة الدينيّة على نظام فكريّ استبداديّ لا يترك مجالاً لدى الفرد لكي يحصّل المعرفة الدينيّة موضوعيًّا ويحوّلها اختباراً شخصيّاً حقيقيّاً ترافقه حريّة داخليّة. تبعًا للفكر الأصوليّ، يكتسب شكل الدين الموروث في أبعاده العقائديّة والأخلاقيّة والإسكاتولوجيّة صفة جامدة ومطلقة. ولا عجب إذذاك أن يُفهم التاريخ فهمًا مبسّطًا إلى حدّ السذاجة، ويُقسّم الناس بسهولة بين أخيار وأشرار، وتُخلَق حالة نفسيّة تُخضع ملكة العقل وتجعل من الخوف من العقاب الإلهيّ – الآن وفي الآخرة – محرّك الحياة الروحيّة ومصدر السلوك الشخصيّ والجماعيّ.

أستاذ في جامعة القديس يوسف

السابق
الراعي لم يطرح اسم زياد بارود كمرشّح توافقيّ
التالي
«الإقتصاد الجامع»: من السياسة إلى السياسات!