الاستحقاق الرئاسي المملّ

رئاسة الجمهورية

مملٌ هذا الاستحقاق الذي يأتي على لبنان كل ستة أعوام ليثمر فراغاً أو توافقاً. إذ ليس فيه ما يشي بأن الانتخاب ممكن أصلاً، ولا ما يفيد بأن سباقاً يجري بين متنافسين محليين.

والعجز عن إدارة الاستحقاق، كما سائر الاستحقاقات الكبرى في لبنان، كالسر الذي شاع وتعايش معه الحكام والمحكومون بصمت، تجنباً لفضيحة متخيّلة.
هكذا، تخاض «المعركة» الرئاسية في البلاد بأسلوب بالغ المسرحية.
فحملة ترشيح رئيس «حزب القوات اللبنانية»، جعجعة بلا طحين. وُجدت من أجل حرق ترشيح العماد ميشال عون. فيما رافعتها دماء رئيس وزراءٍ اغتيل زمن «السلم»، تجاوزاً لدماء رئيس حكومةٍ سبق أن اغتاله المرشح زمن الحرب. تلك هي، على أي حال، لعبة الشهادة في لبنان: حالة موسمية. أُقفلت بعد الاحتراب الأهلي وأعيد فتح موسمها الجديد زمن الوئام، وطُوِّب إثرها المرشح المذكور قديساً في نصف ذاكرة أهل البلاد، فيما حافظ على صورته سفّاحاً في نصفها الآخر.
على الضفة المقابلة، ما زال الجنرال المرشح ينتظر «عوناً» على شاكلة توافق خارجي عليه. يذكّر بقصة «في انتظار غودو»، حيث اللقاء بالموعود لا يأتي أبداً، علماً أنه بنظر مناصريه وقسم لا بأس به من الحلفاء، «أحق بالخلافة» من سائر المتسابقين. وهؤلاء جميعاً يعولون على ورقة أخيرة يحتفظون بها تحت الأكمة، علها تفلح في تغيير المعادلات: عون للرئاسة مقابل الحريري للحكومة، وإلا… فليبقَ المركز الأول شاغراً أمداً، ولينتظر الحريري طويلاً عودته إلى كرسيه.
لكن أوراقاً كهذه صعبة اللعب لكثرة المحاذير ومخاطر الارتدادات. وهي، معطوفة على ما يرسم في الخارج، قد تزيد من جمود المشهد بدلاً من أن تحركه. وحده رئيس كتلة «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط اعتاد من بين اللاعبين أن يكسر الملل برشاقته السياسية وانتقاله «الأكروباتي» من ضفة إلى أخرى، ولو أنه يطيح بكل شيء في طريقه أحياناً كثيرة، ويشعل الأخضر واليابس في لحظات «التخلي»، ثم لا يلبث أن يصبح أعقل الجمع الحاكم، إذ يعود إلى موقعه المفضل شريكاً لرئيس المجلس النيابي، «أشطر» السياسيين جميعاً في الحساب.
ومرشح جنبلاط وسائر الفريق الوسطي، هنري حلو، يبدو كبش محرقة على المسرح. يراد منه عدم الإجهاز على المرشحين الوسطيين «الأصليين» والأكثر جدية، والذين توجد رغبة بالاحتفاظ باسمهم حتى ربع الساعة الأخير، علَّ أحدهم يكون محط توافق بعد أن يعطي الخارج ضوءه الأخضر.
بناء على ما سبق، فإن لوائح المرشحين هذه لا تزيد عن كونها كذلك. فهؤلاء أسماء ترشحهم الكتل المختلفة، بينما الكتل لا تنتخب أياً منهم.
مجلس النواب، في لبنان، يرشح الأسماء ولا ينتخب.
يعلم أهل البلاد أن المعارك الانتخابية هذه لعبة داخلية فيما قرارها الكبير خارجي، تماماً كمعارك الأزقة في عاصمة البلاد الثانية طرابلس وغيرها من المناطق، حيث أبقى المسلحون أيديهم على الزناد فيما يتهيبون الحرب الكبرى التي لا قرار لهم فيها كذلك.
معارك الانتخابات في لبنان، كمعارك الأزقة. ومبعث الخلل هنا ليس سياسياً عارضاً، بل هو بنيوي بامتياز، ويتصل جانب منه بثغرٍ مقصودة في الدستور نفسه، فيما يرتبط جانب آخر بعدم تطبيق بعض ما نص الدستور عليه.
إنه الدستور اللعين إذاً. ذاك الذي جُعلت حوله هالات لا عدَّ لها ولا حصر منذ أن كان.
الفشل في إدارة البلاد نابع من «اتفاق الطائف» «المقدس»، علماً أن الأخير، من حيث المبدأ، كان يفترض ألا يكون أكثر من وثيقة انتقالية لأخرى تتجاوزها.
فلو أن الدستور المذكور نص على انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب، لكان الأمر «مثيراً» بكل تأكيد، ولأمكن متابعة استطلاعات الرأي المتقلبة، نظرياً، حتى اللحظات الأخيرة. لكن الإثارة هنا تصطدم بالتوازن الطائفي، ولو أن الحجة هنا نصف كذبة على اعتبار أن هذا التوازن مكسور في مجلس النواب، أي في الهيئة الناخبة للرئيس نفسها.
ولو أن النص الدستوري يعالج قضية النصاب بشكل أكثر فاعلية، لما ظلت جلسات الانتخاب معلقة على ضرورة حضور المتخاصمين جميعاً، ولما انتهت حكماً برئيس حلٍ وسطٍ يتجنب اتخاذ قرار سياسي طوال ولايته، إلا إذا شعر بتغير في توازنات الإقليم، أو أشرفت مدته الرئاسية على الانتهاء ولاحت أمامه فرص عمل بديلة. ولنا في بعبدا اليوم مثال حي على ذلك.
أما لناحية الجانب الذي لا يطبق من الدستور، فلو أن النص الخاص بإجراء انتخابات برلمانية وفق قانون نسبي يُفعّل، لعكست الهيئة البرلمانية الناخبة حال الأكثرية الشعبية بدلاً من أن تعكس أحجاماً مصطنعة ومقاسات تحددها دوائر الانتخاب. ولكان الرئيس، كما المجلس، أكثر تعبيراً عن برامج سياسية واضحة، وأقل تمثيلاً لكانتونات طائفية مقفلة.
لكن ما ورد أعلاه جُعل على حاله من أجل أن نخوض الاستحقاق الانتظاري ربطاً بتوافقات الخارج. والانتظار هذا صار روتيناً قاتلاً منذ أن أتى اتفاق الدوحة برئيس التسوية الأول بعد الانسحاب السوري من لبنان، ميشال سليمان.
الاستحقاق الرئاسي في لبنان ممل، مهما جادت مقدمات نشرات الأخبار المحلية لغوياً ونهلت من القاموس ما يوحي بأن المباراة قبل الوصول إلى الكرسي حامية.
والإثارة في حالة لبنان، لزوم ما لا يلزم. تفيد، من حيث المبدأ، بإشعار الساكنين على هذه الرقعة أنهم ما زالوا على قيد الحياة وممسكين بأقدارهم، وأن وُلاتهم يجيدون منازلة «البوكر» ويمتهنون المشي على حافة الهاوية أو المبارزة في لعبة «الروليت».
بيد أن لعبة «الروليت» التي تسفر عن رصاص قاتل يليه دخان أبيض، يُفترض أن تُعلنَ بدخانها خاتمة الأزمة والأحزان. لكنها وإعلانها الوهمي، في لبنان، سرعان ما يذويان دوماً.
فمع ختام المشهد الانتخابي، عود على بدء: إدارة توافقية للبلاد خارج عالم السياسة… باستثناء الخارجية منها.

السابق
مسيحيو «14 آذار» للحريري: تبني ترشيح عون للرئاسة يعني فرط عقد تحالفنا
التالي
الرسم مادة إبداع في مدارس الجنوب