تسفيه الديموقراطية: نُبكيكم على أنفسكم و… نضحك

الصورة الأولى: رئيس الوزراء الجزائري السابق، عبدالمالك سلال، يرفع كمبيوتراً محمولاً أمام المايكروفونات ليتحدث الرئيس بوتفليقة عبر السكايب إلى الصحافيين والجمهور.
الصورة الثانية: رئيس مجلس الشعب في النظام السوري يُعلم أعضاء المجلس بترشح زميلهم إلى منصب الرئاسة، الأعضاء لا يبدون أي رد فعل أو انفعال، المرشح الذي تتوجه إليه الكاميرا يحاول أن يكون متماسكاً، على الأرجح لإخفاء ارتباكه الشديد، هو الذي لولا الكاميرا ومناسبة الترشح لما عرف به عموم السوريين.
قد نضيف أيضاً إلى الصورتين السابقتين مشهد الاقتراع في المجلس النيابي اللبناني، والكوميديا السوداء الحاصلة فيه بين طرف يدخل العملية الديموقراطية باحترام، بصرف النظر عن حظوظه في الفوز، وطرف آخر يحضر الجلسة فقط لإظهار استخفافه بها، وإمعاناً في التعالي عليها لا يقدّم مرشحه، ولا يخفي تركه الأمر للكواليس الخلفية التي ستظهّر شخصية الرئيس خارج المسرحية البرلمانية.
لن يكون صعباً الإمساك بالخيط الذي يجمع المشاهد الثلاثة، لأنها تدل بـ «جرأة» صارخة على النية في تسفيه الديموقراطية، ومن خلال ممارسة أقصى درجات الابتذال في التعاطي معها، فهي تريد التنكيل بها أقصى ما يمكن. العروض الكاريكاتورية هنا ليست دلالة على نقص في الخبرة أو الدراية، كأن نقول بإمكانية أن يخاطب بوتفليقة جمهوره المفترض عبر السكايب بواسطة شاشة كبيرة بدل الكومبيوتر الذي يحمله رئيس وزراء سابق، أو أن يلعب النظام السوري ورقة ترشيح شخصية معروفة في الحد الأدنى إعلامياً إن لم يكن سياسياً، أو أن يتعامل نواب الثامن من آذار بجدية مقابلة لتلك التي أبداها خصمهم سمير جعجع عندما أرسل يبلغهم ببرنامجه الانتخابي، أقله ألا تظهر أوراق الاقتراع الكيدية تلك احتراماً لمرشحهم هم، الذي إن لم يكن قد شارك في الحرب الأهلية السابقة فسيكون مشاركاً في الحرب الأهلية الصامتة الحالية.
أولاً، لئلا نضع جلسة البرلمان اللبناني ضمن التجاذبات المعتادة، هناك فريق لا يخفي نيته السيطرة على رئاسة الجمهورية من أجل السيطرة على الدولة والإجهاز على مشروعها لمصلحة دولته، السلاح لم يغب يوماً عن أصحابه وعن تهديد الخصوم به، ما يجعل الاستهتار بالعملية الديموقراطية في صلب المشروع، وكلما زاد الاستهتار بها بانَ كعلامة على تمكّن هذا الفريق من تعزيز تقدمه. احتقار الديموقراطية، أو الاستهزاء بها، عملية تقع في صميم الانقلاب على الديموقراطية اللبنانية، وإذ يُلوّح دائماً بالكواليس لإنجاز التوافقات التي تكرس مبدأ القوة، فإن التوافق يُدفع به كأولوية مطلقة، فلا يبقى عملياً من الديموقراطية التوافقية سوى شقها الثاني الموضوع أصلاً كصمام أمان للشق الأول.
هذه المرة ما يحدث في الانتخابات اللبنانية يحظى بأهمية مختلفة، لا لأنها سابقةٌ بتفاصيلها وإنما لأنها الانتخابات الأولى بعد ثورات الربيع العربي. غير مهم هنا القول بأن لبنان نأى بنفسه عنها، مثلما استطاع النظام الجزائري تجنبها، فآثار الموجة التي نادت أولاً بالديموقراطية لا بد من أن تظهر سلباً أو إيجاباً وبنسب متفــاوتة في كل بلد من المنطقة. ولن يكون من باب نظرية المؤامرة القول بأنه يُراد للانتخابات الرئاسية الأربعة، في لبنان وسورية والجزائر ومصر، الإجهاز نهائياً على موجــة التفاؤل التي أتت بها الانتفاضات. ولئن لم يبقَ من الأخيرة سوى الحدث الـــسوري المشتعل، فإن الموقف منه قد يكون معياراً، فالدول الثلاث الأخرى لا تخفي تعاطفها مع النظام ودعمها له في المحافل الدولية، وإن اقتصر الدعم اللوجستي المباشر على الفريق اللبناني نفسه الذي يُسخّف العملية الديموقراطية في بلده.
وأن تأتي الانتخابات المصرية ضمن الظروف المعروفة، حيث يُتوقع حسم نتيجتها بنسبة كبيرة جداً لمصلحة السيسي، فذلك لا يقل استهتاراً بالمبادئ الديموقراطية، بخاصة إذا قورنت مع سابقتها التي شهدت تعدداً حقيقياً بالمرشحين وتوجهاتهم، وتطلبت جولة ثانية للفوز بفارق ضئيل من نسبة الأصوات؛ لا ننسى أن الفارق الضئيل دلالة على جدية الاقتراع والمرشحين والمقترعين. بل قد يبلغ الاستهتار مداه بحجة نزاهة عملية الاقتراع، وهي قد تكون نزيهة فعلاً بعد تهيئة كل المعطيات لنجاح الرئيس المنتظر.
باستثناء لبنان، خرجت هذه الدول حديثاً من نظام الاستفتاء على مرشح وحيد إلى نظام الانتخاب، لكن النقلة تبدو كأنها مبيتة أصلاً من جانب النظام نفسه لتأكيد أنه لم يتغير، وأنه سيثبت قدرته على القضاء على الديموقراطية بابتذالها. الإخراج الكاريكاتوري المبتذل المرافق للانتخابات يُراد له العمل على برمجة ذهنية ونفسية تؤدي إلى اليأس من إمكانية التغيير، وكلما كانت الصورة أكثر استهتاراً بالوجدان وبالعقول أدت وظيفتها بتعميق الإحساس بالذل واليأس معاً. لن يكون مجازفاً القول بأن «الثورة المضادة» جاءت سريعة من القوى التي في طليعة أولوياتها التشديد على أن شيئاً لم يحدث، وعلى أنها لم تكتسب درساً من الانتفاضات عليها. لو فعلت العكس لصار في وسعها الانتماء إلى حركة التاريخ بصفتها ثورات مضادة بحق، بدل أن تؤسس استمراريتها على كونها عصية على التغيير فحسب.
نسخر من الديموقراطية؟ نعم إننا نسخر منها جملة وتفصيلاً، هذا ما تقوله الأنظمة، بل نعمل على تقديم المادة المتهافتة التي تسهل عليكم السخرية أيضاً مما نفعل. لكن المصيبة في ألا تؤدي السخرية المعممة إلى فعل ملائم من الطرف المستهدف، حيث من دون الفعل سيبقى في موقع مَن يسخر من نفسه ومن عجزه أولاً. لقد شهدنا من قبل سخرية مماثلة إزاء الغياب المطلق لصناديق الاقتراع، وشهدنا أيضاً كيف وقفت نسبة لا يستهان بها من الساخرين ضد التغيير في مؤشر قوي على نجاح الاستبداد في برمجة معارضيه ذهنياً حتى وهم يسخرون منه ظاهراً.
العبرة لا تتوقف عند إيصال المرشح الذي تريده القوى المهيمنة عبر آليات اقتراع صورية، العبرة الأهـــم هي فـــي الطريقة التي يجرى بها ذلك، ففي التفاصيل يكمن التلذذ بمقتل الديموقراطية والتشفي بدعاتها. صور هي المقلوب الهزلي لفيديوات التعذيب التي سرّبها النظام السوري طوال حربه الأخيرة على السوريين، وكأن لسان حال الاستبداد: نحن قادرون على إبكائكم على أنفسكم تارة وعلى الضحك منها تارة أخرى.

السابق
ليست علمانية … لكن شبيهة بها
التالي
الزبداني و معركة المنفذ الأخير إلى لبنان