من تعطيل الرئاسة إلى افتراس الجمهورية

اكتمل النصاب القانوني لانتخاب رئيس جديد للبنان ولم يُنتخب. اكتظ البرلمان بناسه. المرشح الوحيد سمير جعجع نال 48 صوتاً. أي دون الثلثين. ومن الطبيعي أن يدعى المجلس النيابي من جديد لتجديد المحاولة وبحضور الثلثين في الاربعاء المقبل! ومقابل المرشح الوحيد أوراق بيضاء، بلا مرشح. صوتت 8 آذار للأوراق البيضاء التي اصفرّت من ذبولها ثم اسودّت آن اسقاطها في صناديق الاقتراع. أوراق بيضاء سوداء انتخبت نفسها. ومن هذه الأوراق ما تمّ الغاؤه لأنه تضمن اسماء وعبارات تتهم المرشح جعجع بارتكاب جرائم. أي نبشت الأوراق السوداء التي اسقطها نواب القتلة مقابر الحرب، وذكرّت بالمجرمين! وعندما تفتح ملفات الحرب لا يظهر اسم واحد على لائحة الارتكابات التي نعرفها جميعاً، بل مختلف زعماء الميليشيات الذين لم يقصروا لا في القتل ولا في المجازر ولا في التهجير ولا في الخطف. بالجملة. ومنهم من يتبوأ حالياً أعلى المناصب. وكأنما غاب عن بال «المقترعين» نبش المقابر، ان تذكُر شخص دون سواه ما كأنه تذكير بالجميع، وهم معروفون ابتداء من الميليشيات الطائفية، ووصولاً إلى حزب الله لكي لا ننسى ارتكابات الوصاية السورية. فالملائكة، ملائكة الرحمة، نشكرهم لأنهم في تذكيرنا بسمير جعجع يذكروننا بأفضالهم الإرهابية القاتلة. مِن اغتيالات لا ننساها على امتداد حوالي ربع قرن وتدمير المدن إلى اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه وشهداء 14 آذار وآخرهم محمد شطح وقبله وسام الحسن وقبله وسام عيد… فجميل أن نعرف ان وراء الأوراق البيض السوداء… هذا التخصيص، والتمييز وكأنه «إبراء ذمة القتلة»! (حزب الله متهم بقتل الرئيس الحريري، ومحاولة اغتيال النائب بطرس حرب وصولاً إلى آخرين يعرفهم الجميع!).

حزب الملائكة والاطهار والعفة أدار المرآة عن وجهه، ووجهّها إلى سواه، لا لتسفيه المرشح جعجع فحسب (ونحن لا ندافع عن أحد)، وانما الرئاسة نفسها. تماماً كما حاول الحزب «الطهور» (الذي نقل عدته وسلاحه لمحاربة الشعب العربي السوري)، تسفيه رئاسة الحكومة وتمطيط أزمة تأليفها حوالي سنة كاملة، عادت بالويلات على البلاد اقتصادياً وأمنياً وسياسياً. ونظن ان حملات تسفيه الرئيس ميشال سليمان على مدى السنتين الأخيرتين لا يشذ عن هذه القاعدة. أي التصويب على الرئاسة عبر التصويب على الرئيس. ونظن انها مقدمات جديدة لتمطيط هذا الاستحقاق الذي قد يؤدي إلى فراغ، ربما أطول وأقسى مما عاناه لبنان في أزمة تأليف الحكومة. وليس غريباً على حزب الله (وإيرانه الأعز) أن يكون هذا التمطيط النيابي على امتداد الجلسات المقبلة طريقاً إلى فرض الفراغ في الكرسي الرئاسي أي رئاسة بلا رئيس بعدما حاولوا أن يكون الرئيس سليمان بلا رئاسة على غرار ما كان الوضع عليه أيام اميل لحود المجيدة طيّب الله ذكره. وروحه وتراويحه!

 

وفي كلامنا عن الفراغ الرئاسي تندرج كل الجمهورية في هذا المأزق: الحكومة. مجلس النواب. الجيش. قوى الأمن. الاقتصاد. والناس. كأنها أزمة الأزمات بل كأن مجلس النواب، وضمن هذا السيناريو المشبوه يستنحر نفسه. كام المؤسسات وينبوعها. ويتخلى عن دوره. وناسه. وعن الذين أولوه ثقتهم. لا شيء! مجلس نواب يصنع الفراغ بضغط من ميليشيا مذهبية مرتهنه بالخارج. مجلس الأمة يُصبح لا مجلساً ولا أمة والفراغ الذي يراد له أن يَسوَد سدَة الرئاسة هو نفسه الذي يصيب صانعيه في مجلس النواب. انها الآنية المستطرقة. وهكذا في ارتداداته واحتمالاته ليس تهديداً للنظام البرلماني فحسب. بل للكيان وللجمهورية. والدستور. طبعاً؛ انه الفراغ الشامل يُحقّق شيئاً فشيئاً ويُجرّع اللبنانيين قطرة قطرة، لكي يتفكك الشعب والأرض والحدود والهويات التي تضمه. فهل يريد حزب الله (ومَنْ وراءه) تدمير ما تبقى من البنى الجمهورية عبر افراغها وتهميشها وكسر توازناتها ليصل إلى مبتغاه الأساسي، (الأيديولوجي) الانقلاب على الجمهورية كلها. وصورة لبنان. وشعبه. فتحتل الدويلة المذهبية الدولة الجامعة ويسقط عليها نظاماً مذهبياً شمولياً، اشبه بالأنظمة الحزبية الأيديولوجية الشمولية، التي عرفناها على امتداد نصف قرن وأكثر في عالمنا العربي، وفي المنظومات التوتاليتارية والتي نشهدها في ولاية الفقيه.

ونظن أن معزوفة المرشح التوافقي كما يراها حزب اللاتوافق اي الشخص المجرد السديمي تصب في هذا الاتجاه. فالتوافقية في مفهوم الحزب الالهي، اليوم، تعني مساواة الدولة بالدويلة. أي شرعنة هذه الأخيرة، لتحل محل الشرعية الأولى. فالتوافقية مطلوب منها ان تجمع على مستوى الواحد، الدستور وقوانين الميليشيات. الكيان الكلي والكانتونات. السلاح الشرعي وسلاح السرايات المذهبية. القضاء القانوني وشريعة الحزب بحيث يتأكل هذا الأخير لمصلحة الإرادة المسلحة. وكل ذلك، يمهّد تدريجاً، لزوال الدولة. وتفكك مكوناتها. وهنا لا نتكلم على الفراغ الرئاسي فحسب، بل على ما يخفي وراءه من أهداف انقلابية. وكلنا يذكر المراحل الانقلابية التي نفذها الحزب للهيمنة على بعض المؤسسات الأمنية والمرافق الحيوية. سياسة القضم التي تشبه سياسات قضم السلطة التي اعتمدها هتلر وموسوليني واسرائيل في فلسطين مثلاً، أو الوصاية السورية. ومن ثم الإيرانية في لبنان. والتي لم توفر شيئاً: الغاء مجلس النواب نفسه عندما كان يتم انتخاب رئيس الجمهورية وحتى رئيس الحكومة من قصر الرئاسة في دمشق. فالرئاسة كانت هناك. وهنا الشبح. أو الظل. بحيث يتحول المجلس النيابي والحكومة ورئاسة الجمهورية مجرد أدوات تنتخبها الوصاية السورية نفسها. هذا السيناريو الاعتسافي عطلته ثورة الأرز إلى حد كبير وكلنا يتذكر كيف تم التجديد لاميل لحود. وأي ظروف. وأي تهديدات أوصلتنا أخيراً إلى اغتيال الرئيس رفيق الحريري. فهذه الجمهورية غير موجودة في نظر الوصاية. وانها ليست أكثر من محافظة سورية لا يختلف فيها انتخاب برلمانها عن انتخاب مجلس الشعب السوري! حزب الله، اليوم، وبعد ضعف الدور السوري في لبنان يجدد «البيعة» لنفسه في السلاح والتخريب في تحمّل هذا الدور، ولكن من الداخل هذه المرة، ومباشرة وبوقاحة ما بعدها وقاحة. وكأنه، وبعدما حاول تسفيه كل الحكومات التي شارك فيها، سواء التي رئسها السنيورة أو سعد الحريري… أو حتى ميقاتي وبعدما أجرى بروات عديدة لتعديل البنية الدستورية (7 أيار وغزوة الجبل) وحصار السرايا الحكومية وبعدما امتع نفسه بانقلاب القمصان السود، ومن ثم بتجويف فراغ تأليف حكومة الرئيس سلام (التي الفّت بعد شغور دام 11 شهراً) ها هو يكمل السيناريو اليوم، لكن عن طريق مجلس النواب. تعطيل انتخاب رئيس جديد يذكر بتعطيله تأليف حكومة سلام وانسحابه من طاولة الحوار ومن حكومة السنيورة، واتهامها باللاشرعية، بل اتهام مجلس النواب الحالي بعد فوز 14 آذار بالأكثرية في الانتخابات الأخيرة، بأن شرعيته غير شعبية! برلمانية غير شعبية! وهذه المحاولات كلها تصب في امعان الحزب في المضي في مخطط إعدام الجمهورية كلها ليقيم على انقاضها نموذج جمهوريته المذهبية التي رأينا ملامح رائعة منها في الضاحية وفي بيئاته الحاضنة الأخرى: ايواء القتلة والعصابات والمجرمين وسيادة اللاقانون والخوات والفساد ومصانع المخدرات وتزوير الأدوية وتوزيع اللحوم الفاسدة وتبييض الأموال ومحاولة اقتلاع الطائفة الشيعية من تاريخيتها وأصولها وطرق عيشها وانتماءاتها اللبنانية والعربية. اي محاولة «اختراع» جمهور جديد لجمهوريته الجديدة، كنموذج فاقع. فلماذا لا يُعمّم هذا النموذج كنموذج على كل لبنان فيخترع الحزب شعباً لبنانياً آخر، لجمهورية أخرى، تكون على صورة ولاية الفقيه (أعزه الله وبيّاه!)، وكأن الحزب وبعد ذهابه إلى سوريا، بواجب جهادي، إيراني، يريد ان يعود إلى لبنان بالحيوية الاستباحية التي عاد بها بعد انسحاب الجيش الاسرائيلي، بل كأنه، وفي سياحته الدموية هناك في سوريا وفي اهداره دم الشعب السوري وبعد انتصاراته في «الجولان» القصير، الجولان- يبرود، وتل ابيب- معلولا يريد ان يستعيد هذه التجربة في لبنان: انتصار الأقلية المسلحة على الأكثرية الشعبية! طغيان لا تردعه لا قوانين، ولا مجالس أمن، ولا مجتمعات دولية، وكما تُرك الشعب السوري فريسة للنظام والحرس الثوري، وميليشيات حزب الله والميليشيات الشيعية العراقية… فلماذا لا يُسرّع الحزب مخططه ويطبق سيناريو سوريا على لبنان وان بطرق معدلة.. سيقول القارئ اننا نبالغ. ربماّ لكن قرارات هذا الحزب ليست في يده ولا مخططاته من صنعه. ولهذا، فهو اذا وجدت ايران ان الظروف باتت ملائمة لتحويل لبنان ولاية من ولاياتها، وأمرت الحزب بتنفيذ طموحاتها «الاستعمارية»، العنصرية فلن يكون هذا الحزب سوى اداة تلبي ارادتها! خصوصاً وان النظام السوري قد سقط عملياً، ولم يتبق منه سوى «الكلور» والبراميل المتفجرة والكيماوي… والطيران. انتقل النظام من الأرض إلى الجو! وباتت الوصاية الإيرانية تمسك بالميدان القتالي وبجزء كبير من الورقة السورية. بل وبات وجود حزب الله والحرس الثوري في سوريا، شبيهاً بما كان عليه الوجود السوري في لبنان! انقلبت الأدوار وهذا ما يُسيل لعاب ولاية الفقيه التي صرح بعض مسؤوليها بأن سوريا والعراق وتالياً لبنان… أجزاء من الولايات الإيرانية!

هذه هي المعاني الباطنية الكامنة لتسفيه انتخاب الرئاسة اللبنانية. وهذا السيناريو الذي تناولنا جزءاً منه ليس قصة متخيلة، أو خيالاً علمياً، بل هو من الظواهر المحسوسة الملموسة التي يلمسها اللبناني.

قد يقول بعضهم اننا نغالي، ونتمادى في انسياقاتنا ومخاوفنا واننا نقارب الأوضاع بسوداوية قد تحبط الناس ونسقطهم في اليأس. لا! فسيناريوات حزب الله قد اسوّد بعضُها وخبا كثيره، بعد مواجهة 14 آذار لها، في استحقاقاتها الأساسية. وقد يكون الربيع العربي على الرغم مما يقابله من جنون الطغاة والتكفيريين والارهابيين خصوصاً في سوريا، وفي مصر وليبيا واليمن وحتى تونس لا بد انه قطع جزءاً من استراتيجية الهلال الصهيوني الممتد من ايران فالى العراق فالى سوريا، والاردن. ولبنان… بل يمكن القول ان هذه الاستراتيجية الهلالية العبرية، باتت وعرة جداً، خصوصاً في المراحل المقبلة.

لكن نظن، انه لا يمكن مواجهة مخططات ايران (ينفذها حزبها) إلا بالانطلاق من المحطات التي تمسك بها أهل 14 آذار (وقبلهم على امتداد اكثر من أربعين أصوات رفضت كل الوصايات واشكال الطغيان وتدمير مكونات الجمهورية) بوحدة عضوية بين عناصرها كافة، الجامعة والمجتمعة على مبادئها في معركتها الصعبة وربما الطويلة: السيادة، الدولة العادلة، الحرية، الديموقراطية، الجيش الوطني غير المنحاز للميليشيات وللطغاة الجمهورية الواحدة فوق جماهيرية الحزب الإيراني اعتماد التحركات الشعبية والتظاهرات والاعتصامات والتخلي عن الانانيات الشخصية أو المناطقية أو الحزبية… أي استعادة روح 14 آذار في الساحات والميادين وفي مجلس النواب ومؤسسة الدولة.. وهذه كلها من «بعبع» ومخاوف حزب الله الذي لا يريد ان يسمع عبارة «مرجعية الدولة» أو الجمهورية الواحدة او المجتمع السلمي المتعدد، أو التفاعل في الأزمنة الجديدة…

 

ونظن ان ما حدث في المجلس النيابي عبر تصويت 14 آذار للمرشح سمير جعجع من بدايات استرجاع المبادرة، على ان تكون هذه المبادرة مرتبطة بخطة عمل ثقافية وسياسية مجتمعة وكذلك ميدانية (التحركات الميدانية التعبير الأقوى عن الديموقراطية المباشرة). وعلى هذا الاساس لا نرى في محاولات حزب الله ذر الغبار في العيون من خلال ادعائه العمل على مرشح «توافقي» او «وسطي» (يعني نجيب ميقاتي دام ظل فصائله المسلحة في طرابلس) سوى بث الانقسامات داخل 14 آذار وتحويل اهتماماتها السيادية والجمهورية الى أمكنة أخرى لا تصب في النهاية سوى في «أهدافه» الايرانية!

نقول هذا ونحن نعرف جيداً وعورة المسالك في مواجهة هذا الحزب الذي يُجيّش من ناحية الاقلام السود المرتزقة، إلى تجييشه وجهوزيته في العودة إلى 7 أيار آخر…. في هذا المدى القريب او ذاك البعيد!

المهم في كل ذلك ان لا تقع 14 آذار في فخاخ هذا الحزب… بحيث تقودها تنازلاتها ومخاوفها وبعض أوهامها إلى تحقيق ما يصبو إليه!

الدرب طويل نعم! لكن. هناك شموس كثيرة تضيئه!

 

 

السابق
لو كنت رئيس مجلس النوّاب
التالي
ديمقراطية بشار تعليم الفيل الرقص