تسليع القراءة والكتابة

آخر التقليعات الأميركية في ميدان القراءة: ثلاثة مواقع الكترونية تقرر أن لا تدفع مستحقات إلى من تسميهم “مساهمين” بالكتابة فيها، إلا بقدر عدد “الزوار” الذين “قرأوا” ما كتبه هؤلاء: موقع “غوكر ميديا” المتخصص بالشائعات والتكنولوجيا وألعاب الفيديو والخيال العلمي والرياضة، أطلق برنامجاً يدفع بموجبه خمسة دولارات للكاتب في واحد من هذه المجالات مقابل كل مئة ألف “زائر” لمقاله. فيما زميله موقع “ستريت.كوم” فيقرر أن يدفع خمسين دولاراً للكاتب مقابل كل ستين ألف “زيارة” لمقاله في الأسبوع الواحد. أما موقع “دايلي كولر” فقد وعد كتابه بمكافأة إضافية (بَوْنس) على أجورهم القليلة مرتبطة بعدد الذين قرأوا ما كتبوا. 

            التقليعة ليست جديدة تماماً. إنما فقط آخذة بالإنتشار السريع. فـ”الريادة” الفكرية لها تعود إلى موقع “فوربس”، الأميركي أيضاً، المتخصص بدنيا المال والأعمال والإستثمارات. منذ أربع سنوات والموقع يسير على المبدأ هذا: من أصل ألف ومئتين كاتب في موقعه، هناك أربعمائة تدفع لهم مستحقاتهم على قاعدة عدد القراء. من دون النسيان ان الثابتين من بين الكتاب يحصلون، فوق رواتبهم، على مكافأة إضافية في حال قاموا ما تسميه إدارة الموقع بـ”ممارسات صالحة”، أي جذبوا العدد الأكبر الممكن من القراء. وإذا كان موقع “فوربس” له ما يبرره في تسليع القراءة والقلم، إذ انه موقع متخصص في تنمية الموارد المالية وفي تعظيم شأن ممارسيها، وتوزيع الألقاب عليهم “أغنى رجل، أو امرأة”، “أقوى رجل أو امرأة…”؛ أي انه يعلن سلفا عن ان غرضه المعرفي يجب أن يخدم مبدأ رسملة كل شيء، بما فيه المعلومة… إذا كان موقع “فوربس” معذوراً بمنطقه نفسه، وبمبرر وجوده أصلاً، فإن حال المواقع المتبقية بانجرارها إلى منطق زميلتها خارجة عن منطق المعرفة نفسها. وهي تهدد المجتمع الأميركي برمته بمزيد من التراجع عن القراءة، بمزيد من الخضوع لمنطق واحد، هو منطق الربح المباشر المادي الذي تجنيه أية كتابة.

            ولكن الخطر الأكبر هو ذاك الذي قد يهدد النطاق العربي من الإنتاج الكتابي اليومي، المحروم من المناعة ومن القراءة في آن. فالذين “يقرأون” من بين العرب، أي نخبهم، سبقوا التراجع الأميركي بخطوات في تعاملهم مع القراءة. “طليعتهم” منكبة على المواقع التواصلية، بنهارها ولياليها، وقد صارت من أنصار الجملة، لا النص؛ الجملة الخاطفة، اللامعة، اللماحة. لا وقت عندهم، ولا مزاج لقراءة تتجاوز الفقرة. فيما نجاح هذه الجملة الذكية هذه مرهون بقدرتها على التجييش أو الإثارة أو أي شيء آخر غير عالم التجريد المنبوذ، الذي تقوم عليه كل قراءة. فما بالك بقراءة كتاب، ورقياً كان أم على اللوحة الالكترونية؟ 

قبل أن تبلغنا البدعة الأميركية، تضع معظم الصحف الورقية خانة “الأكثر قراءة” من بين مقالاتها؛ ناهيك طبعاً عن المواقع الإخبارية الالكترونية العربية، وذلك عملاً بتقليد الصحف الأميركية؛ قبل ان تبلغنا البدعة، فهم الجميع بأن المقالات الأكثر قراءة، هي تلك المثيرة للـ”سجال”، للسجال الأكثر إثارة. إبحث في “غوغل” عن خبر أو “تحليل” يتعلق بالضجة الدائرة الآن حول فيلم هيفاء وهبي، “حلاوة روح”، وسوف تكون عندك فكرة عن معنى “الأكثر قراءة”.     

 البدعة الأميركية الجديدة تضع لنا معالم طريق مستقبلية في طريقنا نحو هجر القراءة. وما يساعدها على ذلك، تلك اللهفة المحمومة التي تخطف عقل نخبنا تجاه الغرب، مهما كانت كراهيتهم له وللعولمة (أين اختفت كلمة “عولمة”؟)؛ لهفة تجعلهم يفرحون بلحاقهم بالقطار الغربي مهما كان سريعاً، متهوراً، مكدّساَ. وبعد ذلك عليك أن تتخيل كاتبا التحق ناشروه بالقطار، أي لا يدفعون له مقابلا عن مقالاته إلا بعدد الذين سوف “يزورونه”: بأية كيمياء يشتغل عقله أو قلبه في هذه الحالة؟ ولو كان حذقا بما فيه الكفاية، أو محظوظاً، أو صاحب خيال، ألن يفضل بعد ذلك أن يكسب المال بطريقة أخرى، أن يبيع نفسه، طالما كلمته هي مجرد سلعة، وانه، لو رضي بما هو فيه، فسوف يبقى بقية حياته عبداً مأموراً في خدمة ما تجنيه كلمته من مال؟

السابق
صور أولية بعد تدخل الجيش و وصول الاسعاف و الدفاع المدني
التالي
بان: سلاح حزب الله لا يتوافق مع حتمية إجراء إنتخابات حرة ونزيهة