إن بعض الإرث إثم

بعد دحر السلاجقة، ورثة اسكندر المقدوني في آسيا حتى أرمينيا وبلاد القوقاز على يد الفرس تارة والروم تارة أخرى، بدأت حروب المطامع على المنطقة بين الطرفين، وهي أطول حروب في التاريخ، ودامت سبعة قرون من الكر والفر، في وقائع كارثية، استنزفت الطرفين وأضعفتهما، فاجتاحت جيوش الخلافة الإسلامية العربية أراضي الامبراطوريتين ودحرتهما من الهلال الخصيب، حتى بلاد القوقاز وأرمينيا ومصر وباقي شمال افريقيا.

لماذا نستنكر هذه الأحداث اليوم؟ لأن حاضرنا القاتم يعود بنا إلى العداوة التاريخية القديمة المزمنة والتي ما زالت تتكرر. حروب المطامع والمصالح تستعر مجدداً مرتدية حلة جديدة ببراقع مختلفة وأقنعة ساقطة.
كأن التاريخ يعيد نفسه تقريباً، لكن هذه المرة بمفعول عكسي. هناك الخلافة العربية الإسلامية دحرت الامبراطوريتين وسادت. وهنا الطرفان يقضيان على ما تبقى من بلاد العرب، بعدما سادها الظلم والفساد والنفاق والتشرذم والأنانية الضيقة حتى الاهتراء الأخلاقي والركوع… «رحم الله ابن خلدون».
والفارق الآخر فرضه التطور والدهاء الحضاري، وضماد شرعة حقوق الإنسان تلصقه بابلية الأمم المتحدة على أفواه المظلومين المضطهدين والمقهورين، تكتم صراخهم لتتكلم زوراً وبهتاناً باسمهم. إنه فـارق نوعـي يتمـثل بأن الامبراطوريتـين قديـماً كانتا تتحاربان غالباً وجهاً لوجه في معارك غزوات ضارية، وحين تستنزف كلياً، كانت تتـواجه بواسطة دول زبائنية تموّلها وتسلحها وتدعمها، كما كانت حال دولة المناذرة في الحيرة والغساسنة في جنوب بلاد الشام… دولة المناذرة تابعة للامبراطورية الفارسية والغساسنة للامبراطورية الرومانية.
لنتذكر ايضا ومن قبيل المقارنة والمفارقة أن هاتين الدولتين التابعتين كانتا تمثلان المسيحيين العرب! أما ما نراه اليوم، حسب التطور الإنساني المنحدر توحشاً، فهو ان القوتين تتحاربان بواسطة الدول الضعيفة المقهورة، ويدفع فقراء شعوب هذه الدول التابعة من دمائهم وأرواحهم وأرزاقهم وحياتهم ثمن هذه الحروب قتلاً ودماراً وتهجيراً وتفجيراً وتعتيراً ونزوحاً وحصاراً وذلاً، بينما القوى الكبرى تحرك حجار الشطرنج من خلف الستار، مرتاحة لوضعها، واثقة من عملائها والكوادر الفرانكشتانية التي اخترعتها…
وبما أن الحدث بالحدث يُذكر، نرى حالياً تفاوضاً هنا وهناك… في فيينا وجنيف، بين ورثة الروم والفرس حول الملف النووي الايراني، والعالم يترقب النتائج بينما الدول التابعة الزبائنية تقتتل داخلياً وتتناحر في ما بينها.
وبرج بابل الأمم المتحدة يتلهى بانعقاد المؤتمرات والندوات والمسرحيات وينفق المليارات، معظمها عمولات، تنفخ الجيوب وتشتري الضمائر. لو وزع ربعها على الشعوب الفقيرة المنكوبة لما تضور ومات آلاف الأطفال جوعاً على قارعة النزوح والتشرد. لذلك ننعى للعالم هذه الهيئة الأممية التي فشلت فشلاً ذريعاً في حل مشكلات العالم ـ من إحقاق الحق إلى التوازن والعدل في التعاطي مع قضايا الظلم، والقضية الفلسطينية أكبر دليل على ذلك ـ وإنقاذ البشرية من براثن الحروب والفقر والمرض والجهل والظلم، ما ساهم في تفشي الإرهاب واستفحاله في العالم…
ونسمع بحمائم من هنا وصقور من هناك يقترفون الأحكام والتصاريح والاعلام ولا نرى سوى جثث شعوبنا تتناثر نتفاً مشوهة تعمي بصائر كل الضمائر، وتزكم أنوف كل الملفات. تستمر مآسي هذا الصراع تستنزف شعوبنا ومنطقتنا وتستغل طاقاتنا وقدراتنا ومقدراتنا. ونتساءل بقنوط ومرارة: أما من صحوة عربية وإسلامية قبل فوات الأوان؟

السابق
درباس أطلق البطاقة الغذائية الموقتة لدعم الأسر الأكثر فقراً بدءاً من طرابلس
التالي
سابقة قضائية لمحكمة الحريري: إتهام شركات إلى جانب الصحافيين