من وحي جلسة انتخاب الرئيس: رسائل سياسية بعيدة المدى وعميقة المضمون

في محاولةٍ منه لقراءة مجريات الدورة الأولى لانتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية خلفًا للرئيس ميشال سليمان، توقف دبلوماسي غربي عند محطات عديدة شهدتها الجلسة، فأدرج بعض الممارسات والمشاهدات في خانة الرسائل السياسية البعيدة المدى والعميقة المضمون، فيما أدرج بعضها الآخر في خانة الحرتقات السياسية المحلية والزكزكات التي لا تقدّم ولا تؤخّر في ما وصفه باللعبة الكبيرة أو بلعبة الأمم.

وبعيدًا عمّا يمكن أن تحمله الأوراق الملغاة من مماحكات وتسجيل مواقف، قرأ الدبلوماسي في غياب الدبلوماسيين واحدًا من احتمالين، إما أنّ سفراء الدول بما يمثلونه يعرفون تمامًا ما سيجري داخل الجلسة وفق سيناريو معروف سلفًا، أي فتح المعركة تمهيدًا لتسويق التسوية أو أنّ الغرب لم يكن راضيًا على الإطلاق عن الجلسة وهذا ما يبدو مستبعدا للغاية، أي أنّ السيناريو هو دولي والإخراج محلي. ورأى الدبلوماسي نفسه أنّ رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع هو مرشح المملكة العربية السعودية، وهي تدرك استحالة وصوله الى سدة الرئاسة ما يعني أنّ الهدف هو إطلاق العملية الانتخابية للضغط لتحصيل مكاسب أخرى، وبمعنى دبلوماسي أن المملكة خاضت المعركة في لبنان بينما لب المطالب أو التنازلات هي في الخارج. وبمعنى أوضح، فإنّ الورقة اللبنانية باتت من المسلمات السعودية بعد أن فقدت الأخيرة الكثير من أوراقها الرابحة في سوريا ومصر وإيران إذا ما جاز الافتراض. وبالتالي، فإنه يصحّ القول أنّ الاستحقاق أقحِم في دائرة المساومات لتحقيق أكثر من هدف داخلي وفتح باب البازارات والتسويات حتى لا تكون التنازلات من دون مقابل.

في الشكل، حققت الدورة الأولى أهدافها بنجاح منقطع النظير، فهي أصابت أكثر من عصفور بحجر واحد. فمن جهة، سقط تيار “المستقبل” في الشارع السنّي عمومًا وفي طرابلس التي طالما شكلت خزانه البشري خصوصًا، وهذا بدا لافتًا من خلال غياب النائب خالد الضاهر أولا وعدم التزام النائب محمد كبارة على سبيل المثال بالقرار الآذاري ثانيًا وإعلانه ذلك جهارًا،. وذلك في ظل تهريب العديد من الأصوات لمصلحة الخط الوسطي أو لحاجة إثارة العواطف عبر التذكير برئيس الحكومة الأسبق الراحل رشيد كرامي والذي يشكل تراثا ووجدانا طرابلسيا لا يمكن الخروج منه من خلال محطات عابرة وتحالفات الصدفة. ومن جهة ثانية، أثبتت أنّ الفريق الآذاري غير قادر على الاتيان برئيس غير توافقي، فضلا عن عدم احتماله لواقع فرض مرشح لنفسه على منظومة هشة لا يجمعها سوى ارقام ومصالح آنية وتكتيكية.

وفي سياق متصل، يؤكد الدبلوماسي أنّ الاستحقاق دخل في دائرة المراوحة، فالأصوات التي حصل عليها جعجع هي للمساومة لا أكثر ولا أقلّ، ولا يمكن صرفها في الدورات المقبلة، بل على العكس، فإنّ الدورة الثانية في حال انعقادها ستشهد المزيد من الخروج عن الصف المرصوص بفعل ضغوط عربية يدرك أصحابها أنّ صرفها سيتمّ في ملفات أخرى بعيدة عن الساحة اللبنانية، ما يعني أنّ عدد الأوراق البيضاء سيتزايد للضغط باتجاه سحب جعجع ترشيحه وإعلان هزيمته السياسية إيذانا ببدء مرحلة جديدة مختلفة بالكامل لا تحتمل المزيد من الانقسامات التي سيرتبها انتخاب شخصية معادية لـ”حزب الله”، لا سيما أنّ الشكل الطبيعي للاستحقاق يأتي في المرحلة الثالثة من إعادة تركيب خريطة المنطقة الجيوسياسية، أي بعد الانتخابات العراقية والسورية، إلا إذا تمّ التوافق واتضحت صورته فحينها سينجح الضغط الفاتيكاني في تقريب المواعيد والاستفادة من فلتة شوط الاجندة الدولية والاقليمية.

السابق
عكاظ: أي رئيس للبنان سيواجه مصاعب جمة
التالي
ملف الرئاسة (9): هنري حلو الجنبلاطي حفيد ميشال شيحا