عندما سقطت جمهورية الفاكهاني

عند ساحة الملعب البلدي في الطريق الجديدة، وتحديداً في نهاية الشارع الواصل إلى المدينة الرياضية، محلة صغيرة تدعى “الفاكهاني”، حكمت يوماً لبنان فعلياً من شماله الى جنوبه، لتصبح التسمية المعتمدة آنذاك “جمهورية الفاكهاني”. تجربة “الجمهورية” بدأت بوصفها بمحاذاة مخيم صبرا وشاتيلا، مركز الفدائيين منذ ستينات وسبعينات القرن الماضي. واقع جغرافي يشبه منطقة تعمير عين الحلوة، حولها الى نقطة جذب سياسية وعسكرية .. واكثر، إلى جمهورية سقطت عندما وقعت في فخ الداخل اللبناني وضلت طريقها الى القدس.

في الفاكاهاني التي تحولت إلى أبرز أساطير الحرب الأهلية دموية، ترعرع معظم قادة الحركات اليسارية المتحالفة آنذاك مع منظمة التحرير الفلسطينية. ياسر عرفات كان رئيساً لجمهورية، مترامية الأطراف في بيروت وطرابلس والشمال والجنوب والبقاع. لم تكن الجمهورية مجرد نتائج لتوافق عسكري وأوضاع أمنية صعبة في البلاد خلال الحرب الأهلية سمحت لها بلعب هذا الدور. الجمهورية التي ولدت بعيد إتفاق القاهرة الشهير الذي شرع العمل الفدائي انطلاقاً من جنوب لبنان، كانت قائمة بفعل مؤسسات تابعة لها في كل الميادين وإيرادات وموازنة ضخمة مكنتها من إمتلاك أراض شاسعة في الجنوب، وغيرها من المناطق.
قلة من سكان المنطقة يدرك تاريخ الفاكهاني بسيئاته وحسناته بمقاومته وميليشيويته. “جمهورية الفكهاني .. هل تمزح؟!” بهذه العبارات يرد فادي (إسم مستعار) لدى سؤاله ان كان يعلم اي شيء عن الجمهورية. بدت علامات الحيرة على وجهه قبل أن يتدخل الحاج أبو أحمد احد كهول المنطقة في حوار عند ناصية أحد الشوارع بالقرب من كاراج درويش المهجور، يشرح: “قبل الحرب الأهلية نشطت منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان وقامت بعمليات عدة ضد العدو الإسرائيلي، بغطاء عربي وإسلامي شرع لها العمل من لبنان بعد طردها من الأردن في عملية أيلول الأسود بعد خلاف مع الملك حسين، ومع نمو عملياتها في الجنوب والمناطق اللبنانية بدأت تبرز أصوات داخلية معترضة خاصة من الحلف الثلاثي (الكتائب، الأحرار، الكتلة الوطية)، ثم الجبهة اللبنانية خلال الحرب، فيما كانت منظمة التحرير مدعومة من الحركة الوطنية اللبنانية”.
“يا ابو أحمد، أصوات المعترضين لم تكن محصورة بالجبهة اللبنانية، كثر استاؤوا في الآونة الأخيرة من تصرفات منظمة التحرير. ارتكبت أخطاء فادحة”، هكذا يرد أبو محمد الذي قضى معظم حياته متنقلاً بين منطقة وأخرى بعد أن تحولت المنطقة التي يسكنها (الدنا) إلى منطقة عسكرية بإمتياز، ليضيف: “شو كان بدها بالدخول في زواريب السياسة اللبنانية”. كلام أبو محمد يلقى تفاعلاً أكبر: “كلنا كنا فدائيين لكن المنظمة وبعد القوة التي امتلكتها سياسياً وعسكرياً تحولت إلى ميليشيا وصرفت فائض قوتها على الداخل”.
لأبو محمد الكثير من الذكريات عن أيام الجبهة والمنظمة. في هذا “الملعب (البلدي) كانت تقام الإحتفالات، وفي هذه الجامعة (جامعة بيروت العربية) تعلم معظم قادة اليسار والمنظمة والجبهة، والمستشفى (المقاصد)، كانت حيوية بوصفها في عمق المنطقة”. يضيف: “كانت جمهورية قائمة بحد ذاها فعلاً. مكتفية على كل الصعد ومتلاحمة مع المنطقة التي رفعت لواء التأييد لأبو عمار مراراً لكن أول من تضرر من هذه الجمهورية هم أبناء المنطقة. كنا نهرب صوب البحر، كان ملاذنا الوحيد الآمن عند كل معركة”.
كهول المنطقة يتذكرون جيداً تاريخ المنظمة. أحدهم يشرح بأن الفاكهاني كانت عاصمة القرار السياسي والأمني والعسكري، وتطويق منطقة الطريق الجديدة وحصارها من قبل الجيش الإسرائيلي كان هدفه اسقاط هذه الجمهورية تحديداً، قبل ان تشن غارات مكثفة لم يبق بناء واحد في المنطقة. فخرجت المنظمة من لبنان. وكتبت نهاية لجمهورية بدأت مقاومة وانتهت بعد أن مارست كل أشكال الميليشياوية الظارهة والباطنة ضد اللبنانيين او على الأقل بعضهم”.
اعتراضات أبو محمد على الدولة التي قامت ذات يوم بالقرب من منزله، ليست استثناء. كثر ممن عاصروا او يتذكروا الجمهورية، رغم تأييدهم للعمل الفدائي، سجلوا العديد من الملاحظات على تحول الفدائية الى ميليشيا. “كانت الحواجز منصوبة في كل مكان. نأخذ اذناً للعبور وإذناً في أبسط الأمور الحياتية. كانت قوى أمر واقع. واقع مرير خاصة اننا لم نعتبر يوماً منظمة التحرير طارئة على المنطقة. كثر من أبنائنا انضموا اليها وقاتلوا في صفوفها حتى الرمق الأخير والإستشهاد قبل ان تنقلب الأمور رأساً على عقب. ظنوا انهم الأقوى ومارسوا فعل قوتهم على جميع من في لبنان وأولهم من إحتضنهم سياسياً وعسكرياً”. أم طارق تقول تلك الجمل بعدما كانت قاب قوسين او ادنى من الموت. تضيف: “تنقل ابو عمار من مبنى الى آخر وكانت الطائرات الإسرائلية تستهدف كل مبنى يتوجه اليه الى ان قصفت المبنى الذي نقطن فيه. كنت في عداد الموتى فعلياً. لا أدري كيف نجوت. استيقظت بعد 6 أشهر وكان كل شيء انتهى”.
في الفاكهاني والجوار لا شيء يدل اليوم على تاريخ هذا الحي. في الزواريب المبعثرة والمكتظة حياة طبيعية فيها الكثير من العشوائية. تخلت الفاكهاني عن دورها. لا منظمة تحرير. لا مواكب لقياديها ودبلوماسييها. لا زيارات لكبار رجال السياسية. هدأت الحركة وبقيت حركة ناسها وقضاياهم اليومية المعيشية. بين الجدران الكثير من القصص اليومية لإمرأة أنقذت شاباً من الموت ألقت الكتائب القبض عليه قبل ان تتهمها المنظمة بالعمالة. التواصل مع اللبناني الآخر في الحد الإنساني كان عمالة، والإعتراض فقط للتصويب على الخطأ كان خيانة.
في زواريب الفاكهاني وشققها التي استولى على بعضها عناصر المنظمة خلال الحرب. روايات بالجملة، لدولة ضمن الدولة فاقت الدولة قوة وتنظيماً ومالية وادراة وديبلوماسية.. وزالت. الحكمة تؤخذ عادة من الكهول. أبو أحمد يقول بضحكة ذكريات الحرب المؤلمة: “ما في شي بضل على حاله حتى جمهورية الفاكهاني سقطت، وجمهورية الامر الواقع اليوم تكرر تاريخ جمهورية الأمس، ورح تسقط”.
السابق
خطف طفل سوري في كفرجوز ثم إطلاقه
التالي
حزب الله يطرح ثلاثية ’السيادة والمقاومة والدولة’