مناعة لبنانية ضد عودة الحرب الأهلية

حرب لبنان

في 13 إبريل من كل عام يحيي عامة اللبنانيين ذكرى الحرب الأهلية على طريقتهم المعبرة عن رفضهم واشمئزازهم من مظاهرها السلبية المؤلمة والمروعة التي عانوا منها، مستذكرين تسلط وحكم أمراء الحرب الذين صادروا احلامهم في تغيير النظام الطائفي، سبب معاناتهم ومولد الأزمات والصراعات التي لا يمكن أن تنتهي إلاّ بالتخلص منه، فالمتربيعين على عرش هذا النظام يتمسكون به لأنه يوفر لهم دائما اعادة انتاج نفوذهم وحماية مصالحهم عبر الاختباء خلف إدعاء الدفاع عن الطائفة أو المذهب الذي ينتمون اليه، ممسكين بسلاح الخدمات والتشريع وحاجة المواطنين الى العبور الاجباري من خلالهم للوصول إلى أية وظيفة في الدولة اللبنانية.
ولأن الحرب في الذاكرة اللبنانية باتت تعني التراجع الى الوراء بدلاً من التقدم الى الأمام، قرر اللبنانيون محاربة العودة إلى الحرب الأهلية وويلاتها. وقد نجحوا في منع اندلاعها مجدداً، رغم توافر الكثير من الشروط والعوامل التي تدفع باتجاه حصولها، والمتمثلة باحتدام الصراع على خيارات لبنان الوطنية، والتي عبّر عنها بالانقسام الحاصل في البلاد منذ عام 2005 اثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري بين فريق سياسي وشعبي عريض يؤيد خيار المقاومة ضد العدو الصهيوني، ومشاريع الهيمنة والوصاية الغربية على لبنان ويريد احداث تغيير في النظام اللبناني سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وبين فريق آخر يقف ضد هذا الخيار ويتمسك بصيغة النظام القائم ويسعى إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وإحياء مقولة قوة لبنان في ضعفه، تحت عنوان تحييد لبنان عن الصراعات في المنطقة لكن في المضمون يريد تحييده عن الصراع العربي الاسرائيلي وهذا ما أثبتت التجربة استحالته نتيجة العدوانية الصهيونية والتهديد المستمر الذي يمثله الكيان الصهيوني للبنان وأطماعه في ثرواته المائية والنفطية، عدا عن رفضه عودة اللاجئين الفلسطينيين الى أرضهم وديارهم التي شردوا منها عام 1948.

وكان واضحاً أن انتصار المقاومة على العدو الصهيوني عام 2000 بتحرير معظم الأرض اللبنانية المحتلة وانتصارها على الحرب الصهيونية. الأميركية. عام 2006، قد شكل العامل الأساس في إحباط مخطط إعادة لبنان إلى زمن قوته في ضعفه، وقد تولّد عن انتصار المقاومة تكريس مثلث الجيش والشعب والمقاومة، الذي شكّل القوة التي ساهمت في التحرير والانتصار على العدو، وفي الوقت نفسه، أخلت بميزان القوى الداخلي الذي حمى السلم الأهلي في الداخل وحال دون عودة الحرب الأهلية.. واستطراداً منع سقوط لبنان مجدداً في فلك الوصاية الأميركية الغربية.

وقد جاء تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة برئاسة تمام سلام ليثبت هذه المعادلة، من خلال الإقرار بحق المواطنين اللبنانيين في مقاومة الاحتلال، والذي لم يكن ليحصل لولا هذه الانتصارات التي حققتها المقاومة مما انعكس إيجاباً على لبنان في تعزيز القوى الوطنية والمقاومة من ناحية، وأخلّ بالمعادلة الداخلية لصالح قوى المجتمع الرافضة لخيار عودة لبنان إلى الغرق مجدداً، في مستنقع الحرب الأهلية من ناحية ثانية.

من هنا شكلت هذه التطورات الإيجابية الدافع الأساسي في توفير الغطاء الرسمي والشعبي للجيش اللبناني والقوى الأمنية لتنفيذ الخطة الأمنية في الشمال والبقاع، ورفع الغطاء عن المجموعات المسلّحة والإرهابية، واستطراداً وضع حد لهيمنة وتسلّط الجماعات المسلحة والإرهابية التي روّعت المواطنين على مدى. سنوات ماضية وسعت لاشعال نار الفتنة، على أن هذه النجاحات لمثلث الجيش والشعب والمقاومة في حماية خيارات لبنان الوطنية، والحفاظ على سلمه الأهلي ومنع عودته إلى آتون الحرب الأهلية المدمرة، تتطلب ملاقاتها بتغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية داخلية، تعزّز منعة لبنان وتجعله أكثر قوة في مواجهة محاولات الانقلاب على خياراته الوطنية العربية المقاومة.

فالأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بلبنان، هي من نتاج سياسات النيوليبرالية التي اجتاحت العالم والمنطقة مع تفكك الاتحاد السوفياتي وهيمنة الولايات المتحدة الأميركية على العالم في العقدين الماضيين، وقد أدت هذه السياسات إلى مفاقمة الدين العام في لبنان وإلى مزيد من الانحراف في اعتماد سياسات الاقتصاد الريعي، على حساب الاقتصاد الإنتاجي (زراعة. صناعة. سياحة) المنتج للقيمة المضافة. ما أغرق لبنان في دين بلغ اليوم عتبة 64 مليار دولار، نتج عنه فوائد زادت من عجز الموازنة وأرهقت الاقتصاد والمجتمع، وما زاد الطين بلّة اعتماد قوانين ضرائبية،اسميت بالجنة الضريبية، تعفي أكبر شركة عقارية (سوليدير) من دفعها، تحت عنوان تشجيع الاستثمار، في حين جاءت ضريبة الـ TVA لتزيد من التضخم ورفع أكلاف المعيشة، ولتحدث،استطراداً، انهياراً في القدرة الشرائية للأجر، من دون أن ُتقدم الدولة على تصحيحه بمستوى ما حصل من تراجع في قيمته الشرائية.

وقد أدى كل ذلك إلى زيادة نسبة البطالة وهجرة الخريجين إلى الخارج.

غير أن هذه الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية لا يمكن حلها بالمسكنات، فهي تحتاج إلى حلول جذرية، أقلها إعادة النظر بالسياسات الاقتصادية الريعية. بحيث يتم دعم قطاعات الإنتاج، وتقديم التحفيزات للاقطاع الزراعي للاتجاه نحو التصنيع، واعتماد قوانين ضريبية عادلة، تستند إلى الضريبة التصاعدية، وتكون موجهة للاستثمار في القطاعات المنتجة لزيادة معدلات النمو وفرص العمل واستطراداً تنشيط السياحة، إلى جانب الإسراع باستخراج النفط والغاز لتعزيز التنمية والتخلّص من عبء الدين.

أما على صعيد الأزمة السياسية فقد بات من الملح اجراء اصلاح في بنية النظام الطائفي الذي يقوم على احتكار التمثيل النيابي لاعادة انتاج نفوذ الطبقة السياسية وضمان استمرار هيمنتها على السلطة، وهذا الاصلاح لا يمكن أن يتحقق إلاّ عبر وضع قانون انتخابي جديد يحقق صحة وعدالة التمثيل من خلال اعتماد التمثيل النسبي، الوحيد الذي يمكن عبره كسر قاعد احتكار التمثيل في البرلمان، مما يقود بالضرورة الى ادخال دماء جديدة الى قلب البرلمان تمثل قسماً كبيراً من المجتمع وتعبر عن مصالحه، وتالياً يخلق أساساً لبناء تحالفات جديدة تحدث تغييراً في السياسات الاقتصادية والاجتماعية تلبي تطلعات غالبية اللبنانيين في بلوغ العدالة الاجتماعية المفقودة نتيجة هيمنة سياسات الليبرالية الاقتصادية الجانحة نحو مزيد من التهام الثروة وحصرها بيد قلة من الأثرياء من العاملين في المجالات الريعية غير المنتجة للقيمة المضافة، والقاتلة لأي استثمار في القطاعات الانتاجية التي وحدها تحقق النمو وتزيد الثروة الحقيقية وتنتج فرص العمل وتحسن مداخيل المواطنين والدولة في آن معاً.

ولا شك في أن تغييراً من هذا النوع هو الوحيد القادر على احداث تغيير في بنية النظام الطائفي ووضع حد لاستغلال الطائفية لتحقيق المصالح الخاصة.

السابق
اتصالات إيرانية سعودية تدخل على خط الاستحقاق الرئاسي
التالي
مطلوب أطلق النار على عناصر حاجز للجيش في عرسال