واشنطن تدخل مرحلة ما بعد بعد الحرب الباردة

هجوم افتراضي على سوريا

لا تتوقع الأوساط السياسية في العاصمة الأميركية أن تنفضّ الأزمة التي ابتدأت في أوكرانيا في القريب العاجل، بل تنظر بقلق متعاظم إلى تدافع في التطورات تجاوز لتوّه سياق الأزمة القابلة للمعالجة الفورية، ليقحم العالم في واقع جديد يختلف اختلافاً موضوعياً عن الأساس الذي انبنت عليه السياسة الخارجية الأميركية منذ انتهاء الحرب الباردة. فالمسألة اليوم لم تعد العودة إلى ما كان، فهو ليس واقعياً، بل السعي إلى ضبط التطورات بما لا يفاقم خطورة المرحلة الجديدة.
وإذا كانت الحرب الباردة قد انتظمت على أساس تعارض جوهري في المصالح بين الطرفين الرأسمالي والاشتراكي، يمنعه من الانزلاق نحو المواجهة المباشرة إدراك كل من الجانبين أن ثمن هذه المواجهة باهظ جداً، بل يصل إلى الدمار المتبادل المؤكد، فإن مرحلة ما بعد الحرب الباردة كانت قائمة على اطمئنان لدى الجانب الغربي الى أنه تحققت لروسيا قناعة بأن علاقاتها بالغرب، الاقتصادية كما السياسية، أكثر قيمة وأهم من أية رغبة لديها في استعادة ما فقدته من نفوذ أو أراضٍ كانت خاضعة لسلطة الاتحاد السوفياتي. وانطلاقاً من هذا الاطمئنان، جرت «مكافأة» روسيا، وتبدل تصنيفها من الخصم إلى الشريك في المنظومة الاقتصادية العالمية، وجرى غضّ النظر عمّا كان يصدر في موسكو بين الحين والآخر من مواقف خطابية عدائية الطابع، على أساس أنها حاجة سياسية شعبوية لن تتجاوز الإطار الكلامي.
والرؤية البعيدة المدى من واشنطن للترتيب السياسي والاقتصادي والأمني في القارة الأوروبية هو السعي إلى تحقيق مقومات ثلاثة. فالمطلوب أوروبا حرة، أوروبا موحدة، أوروبا في سلام. والحرية، وفق هذه الرؤية هي في آن واحد حرية المواطن من استبداد الحكومات، وحرية الدول من طغيان القوى الخارجية، أما الوحدة، فليست حصراً في إطار الاتحاد الأوروبي، بل كذلك على أساس هيكليات تكاملية لا تستثني الــــدول الـــخارجة عن الاتحاد، بما في ذلك روسيــا. والســــلام، وفق هذه الرؤية يصبح النتيجة الطبيعية للحرية والوحدة والحاضنة الضامنة لهما.
وفي حين أن روسيا، اقتصادياً على الأقل، بدت سائرة باتجاه الانخراط في هذه الرؤية، فإن ثمة عوارض مثيرة للتساؤل استمرت في الظهور، أهمها طبعاً جنوح موسكو للعودة إلى السلطوية داخلياً، وللاقتصار في أكثر من ملف حول التمثيل السياسي السليم وحقوق الإنسان على الشكليات والإجراءات الاسمية، ومنها أيضاً الدعم الروسي المستمر، بل الحماية الروسية للحكم في بيلاروس، آخر نظام استبدادي في أوروبا. وكذلك طرح موسكو مقولة الاتحاد الأوراسي (الأوروبي – الآسيوي) كبديل لاستقطاب بعض الدول الطامحة إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وذلك في صيغة تكاد أن تعيد ابتكار الاتحاد السوفياتي بعينه. ومنها كذلك منع الحكومة الروسية المنظمات الدولية غير الحكومية من النشاط داخل أراضيها أو التواصل الفعّال مع نظيراتها الروسية.
إلا أن قلة قليلة من متابعي الشأن الروسي رأت في هذه العوارض إرهاصات لعودة إلى منطق مواجهة، بل كان الرأي السائد أنها مجرد مخلفات من العهد السابق في طريقها إلى التبدد، وإن بمقدار من التذبذب. وفيما لم تخفِ الأوساط المقربة من الرئيس أوباما حقيقة أن العلاقة الشخصية بينه وبين نظيره الروسي فلاديمير پوتين يعتريها الفتور، فإن الحكومة الأميركية بدت مصرّة على قراءة متفائلة للمعطيات الواردة من روسيا، بل في أكثر من ملف، لا سيما إيران وسورية والإرهاب، حيث جرى التعامل مع المواقف الروسية على أنها خصومة بناءة، على اعتبار أنها تتعارض مرحلياً مع السياسات الأميركية، ولكنها تلتقي معها في الخواتم المرجوة.
ويبدو أن القراءات المتفائلة وطدت رغبة في إنكار الوقائع، أو حتى الاعتذار للتجاوزات لدى بعضهم. ففي حين كانت المواقف الرسمية الأميركية تشجب التهديدات الضمنية الصادرة من موسكو بعد إطاحة الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش، ففي واشنطن من كان «يتفهم» عرض العضلات الذي يقدم عليه بوتين، لحفظ ماء الوجه بعد خسارته أوكرانيا، أحد أهم مداميك رؤيته الأوراسية التي يقيم عليها «قيصريته». إلا أن حدود هذا التفهم، بل اليقظة من سبات إنكار تبدل الوقائع، جاء مع أحداث القرم والجسارة الروسية في ضمّها.
فإذا كان ثمة ما يعنيه هذا الضم فهو أن الاطمئنان الأساس لارتداع القوة الروسية انطلاقاً من تغليب أهمية العلاقة مع الغرب قد سقط، وسقطت معه الهيكلية الكاملة للتصور الأميركي للأمن والاستقرار في أوروبا. فالعالم، من وجهة نظر أميركية دخل مرحلة جديدة انتهت معها المسلمات المعتبرة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
والموضوع هنا ليس العودة إلى توازن رعب. فروسيا، وإن كانت في موقع التلويح بقبضتها في جوارها القريب، لا قدرة لديها على الإطلاق لموازنة القوة الأميركية. إلا أن هذه القوة، انطلاقاً من اعتبارات المرحلة الماضية، انكفأت طوعاً عن التموقع الكفيل بحماية هذا الجوار. فالولايات المتحدة تجد نفسها اليوم ملزمة بإعادة تكوين صيغة جديدة لطمأنة الحلفاء وضبط الخصوم. وواقع الحال اليوم أن هذه الصيغة غير متوافرة، ولا بد من البحث عن أكثر أشكالها نفعاً، مع ما يستغرق ذلك من الجهد والتكلفة، بالإضافة إلى الوقت الذي يتوقع أن تستغله روسيا للإمعان في تحسين مواقعها على الأرض، قبل أن تقوم الهيكلية الرادعة.
ليست هذه أخباراً سارة لحكومة أميركية كانت تجهد لأن تنسحب من دور شرطي العالم. غير أن المقاربة المتاحة لا تقتصر على الجانب الأمني. فروسيا التي كانت قد كوفئت لإيجابيتها، تعاقب اليوم لسلبيتها، وقد تمّ بالفعل إخراجها من مجموعة الدول الثماني مع إلغاء اللقاء الذي كان مزمعاً عقده في بلدة سوتشي الأولمبية الروسية. وفيما لا تجوز المبالغة التهويلية بحجم الأخطار المحتملة، فإن أوساط صياغة القرار في واشنطن منشغلة لتوّها بما لم يكن في الحسبان قبل أشهر قليلة: رؤية جديدة لمرحلة ما بعد بعد الحرب الباردة.

السابق
60 ألف دولار ثمن كومبيوتر لبيل كلينتون… الذي سيصبح جَدّاً
التالي
ماهي الفوائد الصحية للزواج؟