صور: حيث البحر يكتم أسرارها (1/3)

صور

تكاد تكون مدينة صور ألبوماً تتعاقب صوره كي تسرد تاريخنا. فما من شيء يحدث في صور، لكنْ تحت السطح الصُوْريّ يحدث كلّ شيء، فيما تتلاحق تلك الصُوَر التي يأتي بعضها من التاريخ، وبعضها ممّا تُسقطه الذاكرات أو تضيفه، بينما يرد بعض ثالث من خرافات محضة. فهي مواضٍ متزاحمة ومتنافسة، وروايات متعدّدة عن واقع واحد، تتجاور وتتلاصق وإن تمنّت واحدتها طرد الأخرى. فكأنّ ثمّة اتّفاقاً معلناً على أن البحر، الذي يغسل الشاطئ، يغسل كلّ شيء، فلا يبقى، في آخر المطاف، إلاّ وجه ربّك ذي الجلال.
تقول المقدّمة التي تجمع بين الروايات المتناقضة إنّ القصّة تبدأ مع الشيخ عبّاس بن محمّد الوائليّ، أو عبّاس النصّار، الذي ولاّه العثمانيّون حاكماً على صور ونواحيها في 1750. فقد تسلّم عبّاس صور مهدّمةً، دمّرها الأشرف خليل بن قلاوون، ابن شقيق صلاح الدين الأيّوبيّ، الذي هزم الصليبيّين ثمّ تذرّع بمنعهم من العودة إليها فأحال المدينة قاعاً صفصفاً. هكذا بقيت صور نحواً من أربعة قرون مطروحة أرضاً تنتظر من يوقفها على رجليها. لكنّ عبّاس لم يَبنِها فحسب، بل أحياها أيضاً. وهو للغرض هذا استقدم سكّاناً من أمكنة شتّى: من جونيه وجبيل جيء بالمسيحيّين البحّارة، كما قدّمت صيدا ربابنة البحر الذين انضمّ إليهم، بعد عقود قليلة، مصريّون رافقوا ابراهيم باشا في حملته ثمّ استقرّوا في حيّ صوريّ لا يزال يسمّى «حيّ المصاروة». أمّا شيعة القرى المجاورة فهبطوا مزارعين يوفّرون للمدينة طعامها. لقد كانت «طرق البرّ» تحملهم إليها، كما كتب الشاعر عبّاس بيضون في قصيدة طويلة حملت اسم المدينة، «فتطفح السلال بعيون الفلاّحين»، وشيئاً فشيئاً انتزعت صور من حناجر الوافدين «الوتر الفلاّحيّ».
وهذا التكوين انطوى على مصالحة بين البحر ورقعة ظلّت، جيلاً بعد جيل، برّيّة فلاّحيّة. هكذا، ووفقاً للباحث حسين شرف الدين، المشبع بتاريخ صور وأهلها، بنى الشيعيّ والمسيحيّ والسنّيّ المدينة متكافلين متضامنين. فصور، كما يصفها بيضون، إنّما تكوّنت من فتات الضيع التي استمرّت تستقبل المتدفّقين عليها، حتّى أنّ ما من أحد تقريباً من سكّانها جدّه مدفونٌ فيها. وبسبب التداخل اللاحق مع الفلسطينيّين، انضافت لهجتهم إلى لهجات أبنائها فصار صعباً أن تنشأ لهجة واحدة لتلك المدينة المفتوحة.

حقبة الانتداب
في مطالع القرن الماضي، لا سيّما بعد العشرينات، بدأت العائلات التي تولّت السياسة والدين تفد من أرياف صور إلى صور. فمن شحور ومعركة جاء آل الخليل، ومن شحور أيضاً جاء آل شرف الدين، ومن شمع جاء آل صفيّ الدين، ولم يكن المصدر الذي قدم منه آل عرب أقرب من عرب الخيط الواقعة على الحدود الأردنيّة-السوريّة.
وكان لتكوين صور أن اضطلع بتشكيل زعاماتها ونزاعات تلك الزعامات. ذاك أنّ المدينة البحريّة التي تؤلّف نفسها يوميّاً، فيما تنبذ نفسها السابقة، تتعلّم التجارة من العالم الخارجيّ إلاّ أنّها أيضاً تستورد نقص المناعة حيال ما يقذفه البحر. وهي على الدوام تستقبل جدداً يريدون أن ينتموا عبر انتمائهم إلى أقارب سبقوهم إليها، يحمونهم من غربائها ويحتمون بهم. في هذه البيئة التي تشبه بيئات الجنوب الإيطاليّ الدائمة التكوّن، كان الزعيم مَن يدافع، قبل أيّة وظيفة أخرى، عن مرتكبي الجنح، ومن يرعى القبضايات، ومن يفكّ أسر الأسرى.
وفعلاً تولّى آل الخليل هذه المهمّة التي لم تنفصل عن موقع كسبوه مبكراً في الإدارة وتنفيعاتها. فإذا كان آل الأسعد الوائليّون أبطال الحقبة العثمانيّة، فعائلات كالخليل وعسيران والزين ارتبطت بالإدارة الحديثة منذ تولّي رضا الصلح منصب القائمّقاميّة. وبعد رضا، تطوّرت علاقات العائلة مع رياض الصلح ومن بعده سامي الصلح، لتبلغ ذروتها في الصلة الحميمة بين عميدها كاظم الخليل وكميل شمعون.
بيد أنّ روابط كهذه، أودعت مفاتيح النفوذ وتقديم الوظائف في أيدي آل الخليل، استنفرت لدى عائلات السيّاد ردّاً هو، في الآن عينه، أنقى وأعتق ممّا مثّله الخليليّون. فبالتحالف مع الأسعديّين، رموز الزمن والتراتب الأقدم عهداً، ومع عصبيّتهم، تصدّى المرجع الدينيّ عبد الحسين شرف الدين، المنتقل إلى صور في 1907، لنفوذ آل الخليل، واستمرّ أبناؤه يترشّحون لمنافستهم إلى أن فاز أصغرهم جعفر في انتخابات 1960. كذلك خاض حسين صفيّ الدين، والد النائب والوزير اللاحق محمّد، معركة البلديّة ضدّ اسماعيل الخليل، والد كاظم، في 1925، وكسبها.
لقد بدا للسيّاد أنّ العالم الجديد يشوبه شيء من التلوّث الذي يتغذّى على فقر وأميّة واسعين. وفي مناخ كهذا أنشأ شرف الدين، عام 1938، المدرسة الجعفريّة مؤسّسةً لا تبتغي الربح، تموّلها عائدات الزكاة وتبرّعات المهاجرين. وكما فعلت الكليّة العامليّة في بيروت، علّمت الجعفريّة وخرّجت أجيالاً من كوادر صور والجنوب، كما رعت، بعد حين، نشأة أحزاب كالبعث، الذي نما خصوصاً في قرى القضاء، وحركة القوميّين العرب التي ازدهرت بين سنّة المدينة وشيعتها.

موسى الصدر
لكنّ عبد الحسين شرف الدين، بعد عقدين ونيّف على إنشائه الجعفريّة، ضرب ضربة أخرى كان لها أثر أبلغ، لا في تاريخ صور والجنوب فحسب، بل في تاريخ لبنان كلّه. فقد دعا إلى مدينته، وقد تقدّم به العمر، رجل دين إيرانيّاً من أصل لبنانيّ، هو موسى الصدر كي يكمل مهمّته الدينيّة. ولمّا كانت صلات القربى الكثيرة تربط بين العائلتين الموزّعتين على لبنان والعراق وإيران، بدا الأمر أشبه باستمرار طبيعيّ.
غير أنّ كاريزما الصدر جعلت زعامته الروحيّة والزمنيّة تتعدّى صور، خصوصاً وقد وافقها الزمن الشهابيّ وتكاثر أعداد المهاجرين الشيعة وتعاظم تحويلاتهم، فضلاً عن تنامي الكوادر الشيعيّة ممّن فرزهم توسّع التعليم ووظائف الإدارة. هكذا بدأت مأسسة الطائفة بإنشاء «المجلس الشيعيّ الأعلى»، فاحتضنت صور انطلاقة لم تسكن حممها حتّى اليوم.
ولا يزال الصوريّون يتناقلون قصصاً عن الصدر وعن عيشه بينهم، وعن سلوك كان يحضّ على التسامح بين مختلفين. ويُروى، بين عشرات القصص التي تُروى، أنّ السكّان ممّن استنطق «الإمام» شيعيّتهم وأيقظها، قاطعوا بائع بوظة مسيحيّاً من عائلة أنتيبه، ظانّين أنّ الإيمان الذي قُذف في صدورهم لا يجيز لهم تناول ما يصنعه نصرانيّ. وعلى رغم الإجماع على بوظة أنتيبه، وعلى أنّها هي البوظة، لم يعد شيعيّ يطأ دكّانه. هكذا رفع البائع شكواه إلى الصدر الذي انعطف نحو دكّانه بعد صلاة جمعة ترافقه جموع المصلّين، فحين طلب أن يتذوّق تلك البوظة، كسر التحريم الذي أقامه تأويل فقير للتديّن.
وإذ نسأل حسين شرف الدين، الذي صاهر الصدر، عن عواطف الصوريّين اليوم حيال إمامهم، يقول إنّها لا تزال قويّة. بيد أنّه يضيف أنّ «كلّ شغلنا الآن توصيات ومقرّرات».

«العهد الفلسطينيّ»
واقع الحال أنّ حرب السنتين كانت نكسة لنفوذ الصدر سبقت خطفه في ليبيا. آنذاك باتت اليد العليا للمنظّمات الفلسطينيّة المسلّحة ومعها حلفاؤها من أحزاب الحركة الوطنيّة اللبنانيّة.
يومذاك بدأ ما يسمّيه بعض الصوريّين «العهد الفلسطينيّ» الذي وطّده أنّ القوّات السوريّة لم تدخل صور في 1976، متجنّبة الاقتراب من إسرائيل. هكذا بقيت السلطة حتّى اجتياح 1982 الذي لم تواجهه مقاومة تُذكر، لا من المسلّحين الفلسطينيّين ولا من حلفائهم اللبنانيّين. لكنّ الملاّك الزراعيّ محمّد الفرّان، الذي كان أحد قياديّي تلك المرحلة، لا يكابر. فهو يعترف بأخطاء ضخمة ارتُكبت، إلاّ أنّه يجزم في أمر واحد هو «أنّنا لم نسرق ولم نكن فاسدين».
وربّما أمكن رصد الأصول المحلّيّة لذاك العهد وقواه في تطوّرين. ففي أواخر الخمسينات من القرن الماضي بدأ يلمع نجم شابّ صوريّ اسمه محمّد الزيّات، لاعب كرة القدم والقوميّ العربيّ الشيعيّ. لقد وجد الزيّات وحركة القوميّين العرب التي انتمى إليها منصّة الانطلاق في «نادي التضامن»، وكانوا، إلى جانب البعث وجعفر شرف الدين الذي أدار الجعفريّة بعد والده، الأعلى صوتاً في مناهضة آل الخليل. وفي 1960 ترشّـــح الشابّ الكاريزميّ منفرداً ضدّ اللائحتين، لائحة آل الخليل ولائحة السيّاد، ونال أربعة آلاف صوت.
أمّا المصدر الآخر للرطانة القوميّة فكان الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ. ذاك أنّ الأخير ضمّ في الخمسينات والستينات كثيرين من بورجوازيّي المهجر الجدد من عائلات حلاوي ومرتضى وعجمي وسواهم ممّن رأوا فيه طريقهم إلى الشأن العامّ من خارج عائلات التقليد السياسيّ.
لكنّ «العهد الفلسطينيّ» خلّف آثاراً متفاوتة على النسيج الأهليّ. فعلى هامش الخوّات التي كانت تُفرض على ميناء صور، تمّت تصفية القبضاي التقليديّ لمصلحة «المناضل الثوريّ» الذي حدّث الوظيفة نفسها إذ قرنها بالحزب «الطليعيّ» والسلاح الأعقد. وكان رضا الشميساني آخر رموز القبضايات في العهد القديم ممّن استؤصلوا آنذاك. أبعد من هذا أنّ المسيحيّين من ملاّكي الأراضي بدأوا يبيعونها ويغادرون صور مع إنشاء القواعد الفلسطينيّة في أراض يملكونها أو في محاذاتها، سيّما وقد ترافق الأمر مع أعمال قتل وخطف متفرّقة. أمّا السنّة فكانت قصّتهم أعقد. فهم أصلاً تمايزوا في تأييدهم للمقاومة الفلسطينيّة عن تأييد الشيعة لها من خلال أحزاب الشيوعيّ والقوميّ ومنظّمة العمل الشيوعيّ. ذاك أنّهم تعاونوا مع جماعات أصفى طائفيّاً كجيش لبنان العربيّ، أو التحموا مباشرة وعضويّاً بالتنظيمات الفلسطينيّة وامتلكوا مداخل أقوى عليها. فعندما شرعت علاقات البيئتين الشيعيّة والفلسطينيّة تتوتّر، تبعاً لعمليّات عسكريّة استدعت ردوداً إسرائيليّة قاسية على الجنوبيّين، استمرّ السنّة الصوريّون في تأييدهم المقاومة.
هكذا، ومع انقلاب الأزمنة اللاحق، جاءت «حرب المخيّمات» في النصف الثاني من الثمانينات لتُفسَّر على أنّها انتصار شيعيّ متأخّر على السنّة. وبالفعل، ففي مناخها قُتل ستّة من سنّة صور ما بين إعدام ورمي عن الشرفات، قيل إنّهم انتحروا.
واليوم يقيم فلسطينيّو صور موزّعين على مخيّماتهم الثلاثة، الرشيديّة، أكبرها، والبصّ وبرج الشماليّ. ولئن وُصف الأخير وحده باحتضان «عناصر متطرّفة»، يبقى أنّ القوى الإسلاميّة ضعيفة عموماً هناك، فيما الجيش يحاصر الفلسطينيّين الذين لا تغيب عنهم عين «حزب الله» الخفيّة، فيما المخيّمات نفسها لم تبرأ من آلام حرب الثمانينات وما أنزلته بسكّانها. وإذ تمضي العلاقة بعيداً من الاحتكاك المباشر، ينشأ حيّز ضيّق لكلام مدنيّ من نوع أنّ الفلسطينيّين، وهم تقليديّاً عمّال البساتين في صور، «جاؤونا بخبرة البستنة» التي حملوها معهم بعد نزوحهم في 1948، وأنّهم اليوم قوّة شرائيّة معتبرة لا يستغني اقتصاد المدينة عنها، خصوصاً أنّ أبناءهم مهاجرون يعزّزونه بتحويلاتهم وباستهلاك أهلهم.
وإذ دارت الأيّام دورتها، تحوّل الشيوعيّون والبعثيّون أفراداً مبعثرين تتقدّم بهم السنّ. وبرعاية من مثقّفين ومهنيّين أغلبهم يساريّون سابقون ويساريّون صامتون، يرعى «منتدى صور الثقافيّ» لقاءات سياسيّة وفكريّة شجاعة، شرط أن تتجنّب المسّ بالمــصالح الأساسيّة للطرفين المسيطرين، أمل و «حزب الله». كذلك حال القوميّين السوريّين الذين باشروا ضمورهم المديد في أواخر الخمسينات حين والوا العهد الشمعونيّ، من دون أن تسعفهم كثيراً تحوّلاتهم اللاحقة. ولم يكن بلا دلالة وجود يافطة هزيلة على مدخل صور الشماليّ يرحّب فيها السوريّون القوميّون بـ «معالي الوزير الياس بوصعب» الذي يبدو أنّه كان يزور المدينة. بيد أنّ اليافطة تبدو قشّة في عجين اليافطات والصور التي ترفعها حركة أمل و «حزب الله» لقياداتهما وحكّام إيران.

السلطة للبحر؟
أعقب الانسحابَ الإسرائيليّ من صور تنافسٌ بين حركة أمل و «حزب الله»، فيما كان المجلس البلديّ المرآة الأوضح لصراعهما على النفوذ. ففي 1998 ثمّ في 2004 تنافس الطرفان من دون ضجيج، وبالحدّ الأدنى من التعبئة. وبدورها لجأت العائلات التقليديّة المتضرّرة منهما إلى ترشيح أفراد منها على لوائح «حزب الله»، إذ الحركة الطرف الأقوى والأقلّ حاجةً إلى سواه. إلاّ أنّ الأمور استقرّت بينهما منذ 2010 بحيث تشكّل منهما ائتلاف فاز بالتزكية رئيسه وأكثريّته من «أمل».
لقد سارت الأمور بهدوء في صور. فالحزب، المعنيّ بإبقاء وحدة الطائفة خلفه، أراد أن يترك تلك المدينة لنبيه برّي وحركته مقابل احتفاظه بسائر مدن الجنوب الشيعيّ وبلداته. لكنّ هذا السخاء لم ينفصل عن شعور مرجّح لدى الحزب بأنّ معدته أضيق من صور الصغيرة التي لا يتعدّى محيطها الكيلومترين. هكذا كان أمام احتمالين: إمّا أن يوسّع معدته أو أن يضيّق صور.
فبُعيد انسحاب الإسرائيليّين، وقبل أن يستقرّ أمر السلطة، منع الحزب الخمور وسعى إلى تقسيم الشاطئ بين رجال ونساء، فلم يفلح. ذاك أنّ البحر وثقافة البحر انتصبا في وجهه في صيغ عدّة. فصور مدينة سياحيّة تقليديّاً، وهي ليست ذات هويّة دينيّة كاسحة كالنبطيّة مثلاً، بينما يوفّر الوجود التقليديّ للمسيحيّين والسنّة فيها ركيزة للتعدّد وممرّاً إلى الانفتاح. أمّا تركة موسى الصدر هناك فيصعب أن تُستخدم حجّةً لطالبي اللون الواحد. وبسبب الوجود العريق نسبيّاً لبورجوازيّة مهجريّة المصادر، فإنّ تلخيص الحياة الاجتماعيّة في الحسينيّات لا يبدو يسيراً.
لقد نطق البحر ذو الأهواء المتضاربة وعصفت ريحه. واليوم، في تلك البقعة التي وصفها الدكتور اسماعيل شرف الدين بأنّها «المدينة الشيعيّة الوحيدة على البحر الأبيض المتوسّط»، يتعايش المايّوه والشادور صيفاً على الشاطئ، وتمضي الحفلات الراقصة في سبيلها. فصور، وفقاً للدكتور عمر خالد، نائب رئيس «منتدى صور الثقافيّ»، المكان الوحيد في الجنوب الذي تُحيى فيه حفلات رأس السنة. بل ربّما كانت المدينة المسلمة الوحيدة في لبنان حيث لا يُضطرّ الراغب في كأس نبيذ إلى الفرار منها والتوجّه إلى قرية مسيحيّة مجاورة.
وهناك، في ذاك الصفّ الطويل من المطاعم والمقاهي المنتشرة على الشاطئ، ترى النادلات، المحجّبات منهنّ والسافرات، وهنّ على ثقة بادية بالنفس، فيما المحجّبات والسافرات يختلطن معاً ويسرن معاً في الطريق لونين متآلفين في لوحة واحدة. لقد اختفت سلطة «القوّامين» من المشهد العامّ، فشكراً أيّها البحر.
بيد أنّ البحر لا يحكم صور وحده. فالسلطة المعلنة تحتفظ بها حركة أمل التي تجعلها طبيعتها أقدر على التعايش مع مدن البحر، بسيولتها النافية للصهر والتذويب كما بفسادها الملازم.
والحال أنّ الشطر الأعظم من الشاطئ بات يحمل اسم جادة نبيه برّي الذي يقال إنّ الصلة الشخصيّة به أمتن من أيّة صلة تنظيميّة أو سياسيّة بحركته. فهناك يُحسب لبرّي أنّه جنّب صور كأس «حزب الله» ولم يتدخّل في طرق الحياة المألوفة فيها، مبقياً على استقرار قد يكون ركوداً لكنّه لا يفضي إلى انفجارات مدمّرة. ولا يفوت المراقبَ أنّ رئيس المجلس النيابيّ وحركته يبديان رحابة حيال الخصوم مردّها إلى شعورهما بالتفوّق عليهم وعدم الخوف منهم، لا سيّما أنّ الطرف الوحيد الذي يخيف، أي «حزب الله»، مُقرٌّ بهذه الشراكة. أمّا الشعور هذا فيتغذّى على وجود «أمل» في إدارات الدولة وقدرتها الهائلة على توفير المنافع والخدمات، مقابل الضعف الذي ينتاب عائلات التقليد السياسيّ، واقتصار الطموح، لدى أثرياء المدينة، على التقرّب من برّي وتسيير أمورهم ومصالحهم من خلاله. ويتّفق كثيرون من الصوريّين، بمن فيهم الذين لا يكنّون الودّ لحكّام المدينة الفعليّين، على أنّ «أمل» وضعت بعض الوجوه المعقولة في صدارة المدينة وواجهتها.
لكنّ نصف الحقيقة هذا لا يحول دون نصفها الآخر، حيث يردّد أفراد صوريّون أنّ ما من شبر تملكه الدولة إلاّ عُمّر فوقه، من دون اكتراث بالتخطيط المدنيّ أو البيئة أو النظافة التي تبدو، في بعض أحياء صور الداخليّة، عملة نادرة. ويذهب بعض من «يؤرّخون» هذه الوجهة إلى أصولها السابقة على هيمنة «أمل»، أي إلى حرب السنتين، حين انطلق تشويه البناء بعيداً و «شرعت المدينة تشبه مخيّم الرشيديّة بدل أن يحدث العكس». بيد أنّ الوجهة المذكورة تبلغ اليوم تمامها على صعد عدّة: ففي صور لا ينضب الكلام عن شفط رمول، مع ما ينطوي عليه الشفط من تهديد لحياة السابحين، وعن نهب آثار، وعن إمعان في تشويه الواجهة البحريّة. وغزيرة الأخبار التي تُتَداوَل عن حصص يملكها النافذون في مشاريع تجاريّة وسياحيّة كبرى ووسطى، وعن معامل لم تنشأ، رغم الفراغ من تجهيزها بأحدث المعدّات، لأنّ أصحابها رفضوا توظيف عشراتٍ طلب النافذون توظيفهم. أمّا الزعران الذين يتمتّعون بسطوة ونفوذ أدّيا، ذات مرّة، إلى عزل قاضٍ نزيه، فعنوان آخر من عناوين الحياة العامّة في صور.
وهكذا دواليك تمضي الرواية الصوريّة رواياتٍ عدّة، يتتابع فيها المدّ والجزر، كما لو أنّ المدينة تحاكي بحرها الذي يصخب ويهدأ، ويهبط ويعلو، محتفظاً لنفسه بعديد الأسرار المكتومة.

السابق
المسيحيون يُخفقون مجدداً…
التالي
الحريري يهنئ «مرشحنا للرئاسة» جعجع بالفصح